معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري، المشرف العام على مجلة رواق عربي الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.كان حلم الطفلة ملالا يوسفزي، عندما كانت تعيش مع عائلتها عام 2012 في منطقة وادي سوت في شمال غرب باكستان، أن يكون لها ولمثيلاتها من الفتيات الحقّ في التعلم من دون قيود أو خوف من وجود النساء في الحياة العامة. قد يكون هذا الحلم أمرا مسلّما به في معظم الدول اليوم، ومن ضمنها معظم الدول الإسلامية، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لملالا التي كانت تعيش في ظل سطوة حركة طالبان، والتي لم تكن فقط تفرض قيوداً على تعليم الفتيات، بل أيضا تتوعّد النساء اللاتي يتحدّين سياساتها بالقتل والمحاسبة. وبالفعل، في أكتوبر/ تشرين الأول 2012، وفي طريقها إلى مدرستها تعرّضت الطفلة ملالا لمحاولة اغتيال بالرصاص على أيدي مسلّح ينتمي ل”طالبان”، بعد سيلٍ من التهديدات بالقتل التي كانت قد تلقتها هي ووالدها بسبب نشاطها الإعلامي الداعم لحق النساء في التعلم في باكستان وأفغانستان. نقلت ملالا فاقدة الوعي جواً للعلاج في المملكة المتحدة، وعاشت طوال هذا الوقت خارج باكستان، لكنها أصبحت من أهم الأصوات النسائية المطالبة بحقوق النساء وتعليم الفتيات، حتى صارت عام 2014 أصغر فائزة بجائزة نوبل للسلام. نتذكّر قصتها، ونحن نتابع على مدار الشهور الأخيرة النقاشات الجارية عن عودة “طالبان” في أفغانستان لفرض تدابير صارمة تقيّد من حقوق النساء في الحياة العامة والأسرية.
تمدّنا تقارير المقرّر الخاص المعني بأوضاع حقوق الإنسان في أفغانستان، ريتشارد بينت، بمعلومات مروّعة عن الوضع الإنساني الميداني في أفغانستان منذ عودة “طالبان” إلى الحكم. وقد عين بينت في أبريل/ نيسان 2022 في هذا المنصب الذي كان قائماً في الماضي، وألغى عام 2005 بعد اكتمال تشكيل الحكومة الأفغانية. تشير المعلومات في هذه التقارير إلى شيوع صور فجّه للتمييز ضد النساء، مع ورود تقارير موثّقة عن تزايد معدّلات الانتحار وسط النساء عام 2022 في ظل حالة من اليأس من تحسّن الأوضاع المزرية في البلاد منذ سقوط العاصمة كابول في قبضة “طالبان” مرّة أخرى في 15 أغسطس/ آب 2021 ثم سيطرتها على الأراضي الأفغانية في غضون أسابيع قليلة، بالتزامن مع انسحاب القوات الدولية متعدّدة الجنسيات في 6 سبتمبر/ أيلول 2021. وقد أعلنت “طالبان” تأسيس الإمارة الإسلامية في أفغانستان وتم تجميد الدستور وحل المؤسسات الدستورية والوطنية، وتفكيك مؤسسات حكم القانون والعدالة. وفي مايو/ أيار 2022 صنّفت أفغانستان واحدة من الدول ذات السجل الأسوأ في حرية الرأي والتعبير، وحرية الإعلام طبقاً لمنظمة مراسلون بلا حدود.
في شهادتها للخبير الأممي، تقول إحدى ضحايا سياسات “طالبان” بمرارة “تعرف المرأة الأفغانية ما يعنيه أن تكون مرنًا وقويًا، لقد تحمّلنا الألم والمصاعب سنوات خلال الصراع، ودفنّا أبناءنا وبناتنا، لكن الألم والخوف نشعر به اليوم تجاه أنفسنا ومستقبل بناتنا، بينما الشعور بالنسيان من المجتمع الدولي ألمه أسوأ بكثير”. لقد اختفت المرأة تماما من كل مواقع العمل العام في أفغانستان. وفي الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، جعلت “طالبان” تعليم الفتيات مقتصراً على التعليم الابتدائي، وحظرت التحاقهن بالتعليمين، الثانوي والجامعي. عندما كانت “طالبان” في السلطة بين عامي 1996 و2001 كانت المدارس مغلقةً أمام الفتيات، وكانت السلطات الأفغانية اتخذت تدابير عديدة في السنوات التالية لسقوط حكم “طالبان” عام 2003 لتعريز حقوق النساء، إلا أن كل هذه الخطوات مُحيت بفعل الانتكاسة السياسية في أفغانستان وكأنها لم تكن. وقد فرضت “طالبان” الحجاب الإجباري على النساء، وأصدرت تعليماتٍ ببقاء النساء في منازلهن، إلا في حالات الضرورة، وضرورة اصطحاب المرأة محرما في السفر في بعض الحالات. كما ألغيتْ رخص السيدات لمزاولة مهنة المحاماة. وجرى فتح الباب واسعاً أمام العنف الأسري وخضوع المرأة كاملة لسلطة الرجال بإقرار “طالبان” محاسبة الرجال على المخالفات التي ترتكبها النساء اللاتي يخضعن لسلطتهم. وعلى الرغم من إصدار “طالبان” تعميما يحظر الزواج القسري للنساء، زادت معدّلات زواج الأطفال تحت سن 15 عاماً، نظرا إلى عدم تحديد سن أدنى للزواج. وفي 24 ديسمبر/ كانون الأول، حظرت حركة طالبان عمل المرأة في المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، وهو القرار الذي ترك تداعياتٍ جسيمة على عمل قطاع الإغاثة والخدمات الإنسانية في أفغانستان.
ا تغيب عن الأذهان مشاهد الفوضى والازدحام في مطار كابول، ومحاولات كثيرين من أبناء أفغانستان الفرار، والتي دفعت بعضهم يائساً إلى تسلق الطائرات والتشبث بأجنحتها في مدرج المطار خوفاً من المصير المجهول تحت قبضة حركة طالبان. وقد انشغلت في هذا الوقت المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية للتدخّل السريع والتنسيق مع حكوماتٍ غربيةٍ وإسلاميةٍ لإنقاذ من يمكن إنقاذه وإخراجه من أفغانستان، خصوصا هؤلاء الذين تقلّدوا مناصب ووظائف رسمية في النظام الحاكم السابق، أو العاملين في المنظمات الدولية، والمجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان أو وسائل الإعلام. عبّرت هذه المشاهد عن عبثية السياسة الدولية تجاه مناطق النزاعات المسلحة، وفشل سياسات المجتمع الدولي تجاه أفغانستان منذ سقوط “طالبان” عام 2001. خسر المجتمع الدولي الاستثمارات المالية والبشرية المهولة التي وضعتها الحكومات الغربية والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية على مدار عشرين عاماً لتطوير نظام الحكم الجديد، وبناء المؤسّسات الدستورية، والتنمية وحكم القانون.
وعادة في مثل هذه الظروف السياسية التي تشهد سقوط السلطات المركزية للدول، وصعود أعمال عنف متجدّد بين جماعات مسلحة، تكون المرأة والأقليات من الفئات الأكثر عرضة لخطر العنف والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، خصوصا في ظل تصاعد استخدام الدين وسيلة للحشد والتعبئة وبناء الشرعية السياسية، كما هو الحال بالنسبة لحركة طالبان. وقد رأينا، على سبيل المثال، في ليبيا ارتفاع وتيرة اغتيال واختفاء ناشطات نسويات ومدافعات عن حقوق الإنسان في فترة تصاعد الصراع الأهلي الداخلي خلال عامي 2016-2019. لقد أبدى بعض مسؤولي “طالبان” في الأيام الأولى لوصولهم إلى السلطة وعوداً بتقديم نموذج حكم مختلف عما كان. وبالفعل، كانت هناك اتصالات مع خبراء حقوقيين دوليين، وخبراء في الشريعة الإسلامية بوساطة بلدان عربية وإسلامية لمساعدة الحركة على تطوير مواقفها وسياساتها الداخلية، وضمان الحد الأدنى من الحقوق وحكم القانون.
وعندما التقى ريتشارد بينت مسؤولين من “طالبان” أبلغوه أن معظم بنود اتفاقات حقوق الإنسان الدولية التي صادقت عليها أفغانستان لا تتعارض مع تفسيراتهم للشريعة الإسلامية، وأنهم حريصون على استمرار تعاون السلطات الأفغانية مع هيئات حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ولكن أيا من هذه الوعود لم يتحقّق. وكان الطريق الأسهل للحركة والملائم لتاريخها، وقواعدها التنظيمية والسياق السياسي الداخلي في أفغانستان هو إعادة إنتاج نموذجها المتطرّف الذي تستغله سياسياً الأصوات اليمينية المتطرّفة والمعادية للمسلمين في الغرب، كما أنها تخدم كل التعميمات المبسّطة والاتهامات التي تلاحق الشريعة الإسلامية باعتبارها مضادة بالضرورة لحقوق الإنسان.
لا يبدو أن الأوضاع الإنسانية المزرية في أفغانستان ستشهد تحسّناً في المدى القريب مع تعقد الانقسامات السياسية الداخلية، وغياب دور فاعل للمجتمع الدولي، وتصاعد أعمال العنف والصراعات البينية، والتي تمتد أثارها إلى الجارة باكستان. ستستمر معاناة النساء في أفغانستان سنوات، لكن التقارير تشير إلى قصص مقاومة ونضال تخوضها المرأة الأفغانية هناك، كما تخوضها حالياً النساء في إيران منذ اندلاع انتفاضتهن الواسعة ضد السياسات الباطشة والبوليسية التي ترتدي عباءة الدين.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post