تعليق قانوني
الحق في التنظيم وتكوين الجمعيات حق أساسي ضمن الحقوق المدنية والسياسية التي تكفلها كافة المواثيق والمعاهدات الدولية، كما يُعد ضمانة أساسية لتمتع الأشخاص بحرياتهم الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى. إذ يمثل أحد أركان النظام الديمقراطي الذي يضمن للأفراد «التعبير عن آرائهم السياسية والمشاركة في الأعمال الأدبية والفنية وغيرها من الأنشطة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، والمشاركة في ممارسة الشعائر الدينية وغيرها من المعتقدات»؛ لذا أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الـ 20، وكفله العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته 22، ونصت عليه الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (المادة 15)، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (المادة 7). كما أكدت عليه المادتان 26 و40 من الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين وأسرهم، والمادة 15 من الاتفاقية الخاصة باللاجئين. والمادة 24 (7) من الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، والمادة 29 من اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
ولما كانت الدولة الليبية قد صادقت على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1970،[1] وصادقت أيضًا على الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب عام 1986، والذي تضمن المادة 10 (1) منه حرية تكوين الجمعيات؛[2] أصبح لزامًا عليها إعلاء هذه الالتزامات الدولية على أي قوانين وطنية. وذلك على النحو المشار له في الطعن الدستوري رقم 57/01 (ديسمبر 2013)، والذي أوضح أن «الاتفاقية الدولية التي صادقت عليها السلطات التشريعية الليبية تعلو على القانون الوطني. وفي حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) مباشرةً أمام المحاكم الوطنية».
في 21 مارس 2023، أصدرت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة منشورًا (رقم7/2023) الذي يسمح للجمعيات المحلية والدولية في ليبيا بمواصلة عملها مؤقتًا، ويقر بشرعيتها (المؤقتة) لحين (تصحيح) أوضاعها وفق قانون 19/2001 لتنظيم الجمعيات (أحد قوانين نظام القذافي التي يُفترض سقوطها بموجب الإعلان الدستوري 2011)، وذلك دحضًا لما ورد في التعميم العام رقم 5803 الصادر في 13 مارس، عن إدارة التعاون الخارجي بحكومة طرابلس، والذي أقر بعدم شرعية جميع الجمعيات الوطنية والدولية العاملة في ليبيا؛ المسجلة بعد عام 2011.
في الوقت نفسه أقترح من بعض أعضاء مجلس النواب بعض التعديلات على قانون 19/ 2001، والذي جاء قرار العودة لأحكامه كإطار منظم لعمل الجمعيات في ليبيا تحايلًا على حالة الفراغ التشريعي وغياب الإطار القانوني المنظم لعمل الجمعيات بعد 2011؛ الأمر الذي أفسح المجال أمام السلطات التنفيذية على مدى السنوات الماضية للتعدي على اختصاص السلطة التشريعية في تنظيم العمل الأهلي. فأصدرت منذ 2016 وحتى مارس 2023، أربعة قرارات ولوائح إدارية تعكس إصرار السلطات الحاكمة في الشرق والغرب على خنق حرية تكوين الجمعيات الوطنية والدولية، وخاصة الحقوقية التي تفضح انتهاكاتها، والسيطرة عليها.
فهل يصلح قانون 19 لسنة 2001 كإطار منظم للعمل الأهلي في ليبيا؟ وهل تفي تعديلاته الأخيرة بالمعايير الدولية لحرية التنظيم والمبادئ الأساسية للقوانين الوطنية المنظمة لعمل الجمعيات؟ وماذا عن اللوائح والقرارات السابقة الصادرة عن السلطات التنفيذية في الشرق والغرب، هل تحظى بأي مشروعية؟
في هذا التعليق القانوني نبحث تطور الإطار القانوني المنظم للعمل الأهلي في ليبيا، ومدى دستورية ومشروعية قوانينه التشريعية وقراراته ولوائحه التنفيذية، ومدى توافقها مع التزامات ليبيا الدولية فيما يتعلق بحرية التنظيم. كما نسلط الضوء على خطورة غياب تشريع وطني يتوافق مع المعايير الدولية والدستورية لتنظيم ممارسة هذا الحق، ونُعيد طرح المشروع المقترح من منظمات حقوقية ليبية والمقدم لمجلس النواب في يونيو 2021 كبديل عن القانون الحالي 19 لسنة 2001. كما يتطرق التعليق إلى المعايير الدولية المبررة لتقيد الحق في التنظيم والسوابق القضائية في النظام القانوني الليبي الضامنة لحمايته، حتى في أوقات الاستثناء.
1-قانون 19 لسنة 2001: القانون القمعي
في 1969 أصدر القذافي الإعلان الدستوري الذي تجاهل الإشارة إلى الحق في تكوين الجمعيات، عاصفًا بدستور 1951، الذي كان يقر هذا الحق (المادة 26). وفي 1970 أصدر مؤتمر الشعب العام للقذافي القانون رقم 111، الذي ألغى بدوره مواد القانون المدني الليبي الصادر في 1953، والتي كانت تنظم بدورها عمل الجمعيات (المواد من 64-68). ولم يعترف القانون الجديد (رقم 111) إلا بالجمعيات التي أسسها مجلس قيادة الثورة أو وزير الشئون الاجتماعية والتأمينات الاجتماعية. وبذلك نجح نظام القذافي في محو الحق الدستوري والإطار القانوني لتنظيم الحق في تكوين الجمعيات.
وفي عام 2001، أصدر مؤتمر الشعب العام القانون رقم 19، وهو قانون لا يعترف سوى بالجمعيات التي تُقدم خدمات اجتماعية أو ثقافية أو رياضية أو خيرية أو إنسانية. ويضع هذه الجمعيات تحت إشراف صارم من مؤتمر الشعب العام. وبموجب هذا القانون لا تسمح السلطات التنفيذية بتأسيس الجمعيات إلا بعد اقتناعها بنوع النشاط وموافقتها على نظامها الأساسي وأسماء أعضاءها. ويحق لها إبطال القرارات والإجراءات الخاصة بالجمعية. كما يحق لها، دون إذن قضائي، تعيين إدارة مؤقتة للجمعية أو إغلاقها أو حلها أو دمجها بأخرى. ويرهن القانون حق الجمعيات في الحصول على تمويل أو مزاولة نشاط ما أو عقد اجتماع للجمعية العمومية، بإشراف وحضور ومباركة مؤتمر الشعب العام.
هذه الصلاحيات الواسعة والقمعية، لم تكن تعصف فقط بحرية واستقلال العمل الأهلي. وإنما تخالف مبادئ حرية التنظيم التي أقرها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وضمانات حرية تكوين الجمعيات حسب المادة (10/1) من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. ومن ثم، ينطبق عليه ما ورد لاحقًا في الطعن الدستوري 57/01 في ديسمبر 2013 والذي أقر بتفوق الاتفاقية الدولية على القانون الوطني، وأنه «في حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) مباشرة أمام المحاكم الوطنية اللبيبة»، بالإضافة لمخالفته الصريحة للمعايير الأساسية الواجبة في أي قانون وطني منظم للعمل الأهلي، والواردة في تقرير المقرر الخاص الأممي المعني بحرية التنظيم الصادر في مايو 2012.
وبالإضافة للقانون رقم 19، استخدم نظام القذافي في قمع حرية التنظيم؛ القانون رقم (80) لسنة 1975 بشأن تعديل وإلغاء بعض أحكام قانون العقوبات، والذي يتضمن تعريفات غامضة للسلوك المحظور قانونًا، والذي تصل عقوبة الاشتراك فيه حد الإعدام (المادة 206)،[3] فيجرم على سبيل المثال، الأفعال التي تسعى إلى «تغيير القواعد الأساسية للبنية الاجتماعية بوسائل غير مشروعة»، دون تعريف محدد لتلك القواعد ولا هذه الوسائل. هذا بالإضافة لتعارض مواد هذا القانون (رقم 80)،[4] مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا، لا سيما المواد 6 و7 و15 و18 و19 و21 و22 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
2-حرية تكوين الجمعيات بعد الإعلان الدستوري 2011
في 2011، ومع صدور الإعلان الدستوري الجديد، كفلت المادة 15 منه حق الأفراد في حرية تكوين الجمعيات، والتي يجب أن ينظمها قانون عن السلطة التشريعية الوطنية. وبذلك سقط الإعلان الدستوري 1969، وسقطت معه كل تشريعات وقرارات وقوانين نظام القذافي وأجهزته التنفيذية.
وفي 2013، صدر القانون رقم 29 المتعلق بالعدالة الانتقالية الذي نص صراحة في المادة 6[5] على بطلان وعدم شرعية جميع التشريعات الجائرة الصادرة قبل 2011. وهو ما ينطبق تمامًا على القانون 19 الصادر عام 2001 بشأن حرية تكوين الجمعيات، والقانون رقم (80) لسنة 1975 بشأن تعديل وإلغاء بعض أحكام قانون العقوبات، بما في ذلك المواد التي تجرم حرية التجمع وتعاقب عليها بعقوبات قاسية تصل للإعدام (المادة 206).
وكان من المنتظر أن تُصدر السلطة التشريعية قانون جديد ينظم عمل الجمعيات، امتثالًا للإعلان الدستوري، على أن يتوافق هذا القانون الوطني الجديد مع التزامات ليبيا الدولية بشأن حرية التنظيم، حتى في حالات الاستثناء، ويتوافق مع المبادئ الأساسية الواجب توافرها في أي قانون وطني ينظم عمل الجمعيات، والتي أقرها المقرر الخاص المعني بحرية التنظيم في الأمم المتحدة، في تقريره عام 2012 وهي؛
- أن تكون منظمات المجتمع المدني قادرة على التسجيل لدى الهيئة الإدارية المختصة من خلال عملية الإخطار وليس الترخيص.
- إذا ارتكبت جمعية ما انتهاك، على السلطات التنفيذية، بما في ذلك المؤسسات الأمنية، الطعن في التسجيل أمام سلطة قضائية محايدة ولا يمكنها رفض التسجيل دون إشراف قضائي.
- يجب أن يكون لمنظمات المجتمع المدني الحق في فتح حساب مصرفي دون إذن من السلطة التنفيذية، ولا يمكن تجميد هذا الحساب المصرفي إلا بحكم من السلطة القضائية.
- يجب على السلطات ألا تطلب من منظمات المجتمع المدني التسجيل مرة أخرى إذا كانت قد سجّلت بالفعل؛ يُعد الالتزام بتجديد التسجيل انتهاكًا لحرية تكوين الجمعيات.
- يجب على السلطات السماح لمنظمات المجتمع المدني بالاجتماع مع المجتمعات المحلية والدولية دون موافقة مسبقة.
- لا يمكن للسلطات تعليق أو حل جمعية دون حكم من القضاء يحترم مبادئ المحاكمة العادلة.
جدير بالذكر أنه وفقًا للمادة 4 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لا يعتبر الحق في حرية تكوين الجمعيات حقًا مطلقًا، لكن في حالات استثنائية، يمكن وضع قيود عليه، شريطة أن تكون قانونية وضرورية في المجتمعات الديمقراطية. ويشير التعليق العام رقم 27 للجنة الأممية المعنية بحقوق الإنسان عام 1999 بشأن حرية التنقل، أنه: «على الدول، عند اعتماد قوانين تنص على قيود أن تسترشد دائمًا بالمبدأ القائل بأن القيود لا تعرقل جوهر الحق. ويجب ألا تغير العلاقة بين الحق والقيد، بين القاعدة والاستثناء». ومن ثم، فثمة شروط ينبغي التأكد من استيفائها حين ترغب الدول في تقييد هذا الحق، كما يجب تبرير أي قيود بناءً على إحدى المصالح المحدودة المشار إليها أعلاه (قانونية وضرورية). بمعنى أن الاستثناء لا بد أن يكون له أساس قانوني (يأتي بقانون أو تعديل موقوت على قانون)، تتم صياغته بما يكفي من الدقة، ويقدم مبرراته الضرورية. فعلى سبيل المثال، وفقًا للفقه القانوني لمنظمة العمل الدولية،[6] فإن قرارات حل المنظمات العمالية «يجب ألا تحدث إلا في القضايا الخطيرة للغاية؛ وأن يتم حل مثل هذه الحالات فقط، بعد قرار قضائي يضمن حقوق الدفاع بشكل كامل».
أما اللجنة الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب فقد وجدت أن أي قيود شاملة على من يمكنه تكوين الجمعيات هي في جوهرها غير قانونية. وأنه لا يوجد نص آخر بشأن من يمكن تقييد هذا الحق عليه أو متى يمكن تقييده، كما هو المنصوص عليه في المادة 10 والمبادئ التوجيهية بشأن حرية تكوين الجمعيات و التجمع السلمي الصادرة من اللجنة الافريقية لحقوق الإنسان والشعوب في الدورة الـ 60 للجنة المنعقدة في نيامي، النيجر، في الفترة من 8 إلى 22 مايو 2017.
3-غياب التشريع وتعدي السلطات التنفيذية على اختصاص مجلس النواب
غياب هذا التشريع الجديد الذي يقتضيه الإعلان الدستوري، ولمدة أكثر من 10 سنوات، فتح المجال أمام السلطات التنفيذية للتعدي على اختصاص مجلس النواب في تنظيم العمل الأهلي وتكوين الجمعيات الوطنية والدولية. فأصدرت منذ 2016 وحتى مارس 2023، أربعة قرارات ولوائح إدارية تعكس إصرار السلطات الحاكمة في الشرق والغرب على خنق حرية تكوين الجمعيات الوطنية والدولية، وخاصة الحقوقية التي تفضح انتهاكاتها، والسيطرة عليها. هذه اللوائح والقرارات هي؛
- اللائحتين 1 و2 لعام 2016 الصادر عن حكومة الشرق برئاسة عبد الله الثني.
- القرار رقم 286 لسنة 2019 الصادر عن المجلس الرئاسي في طرابلس برئاسة فايز السراج.
- القرار رقم 5 لسنة 2023 لمفوضية المجتمع المدني التابعة للمجلس الرئاسي بطرابلس برئاسة محمد المنفي
حدت هذه القرارات واللوائح من عمل الجمعيات المحلية والدولية في ليبيا، وقيدت حرية الأفراد في تكوين الجمعيات الأهلية من خلال وضع نظام ترخيص يتطلب موافقة الجهة الإدارية (مفوضية المجتمع المدني) بدلًا من نظام الإخطار. كما تُجبر هذه القرارات واللوائح المنظمات العاملة على إعادة التسجيل مرارًا وتكرارًا تحت تهديد الحل. وعند التسجيل، يُطلب منها التوقيع على تعهد بأنها لن تدخل في اتصال مع سفارة أو كيان دولي دون إذن مسبق من السلطات التنفيذية. كما تمنح هذه اللوائح والقرارات للجهة الإدارية حق اقتحام مقار الجمعيات وتفتيشها وحلها وتعليق نشاطها بشكل مؤقت وتجميد حسابها البنكي دون حكم قضائي. وتُجبر الجمعيات على الحصول على موافقة الجهة الإدارية لتلقي تمويلات لمشروعاتها، أو تنظيم أية فعاليات تندرج ضمن أنشطتها. هذا بالإضافة إلى تدخّل الجهة الإدارية بموجب هذه اللوائح في عمل الجمعيات، لدرجة المطالبة بالكشف حتى عن أسماء الضحايا المستفيدين من أعمال الجمعية في انتهاك لخصوصيتهم، كثيرًا ما يعرضهم للخطر.
والحقيقة أن هذه القرارات واللوائح في مجملها باطلة؛ لأنها صادرة عن غير جهة اختصاص، ومن ثم ينطبق عليها ما خلص له الطعن الإداري رقم 37/39 الصادر عن المحكمة العليا الليبية أن «القانون التنفيذي يفقد صحته وصلاحيته ويعتبر باطلًا عندما يشوب القرار التنفيذي عيب جسيم وجوهري. كأن تباشر السلطة التنفيذية عملًا من اختصاص السلطة التشريعية أو السلطة القضائية». وبالمثل اعتبر الطعن الإداري رقم 163/49 الصادر في نوفمبر 2005 من المحكمة العليا الليبية أن: «القرار الإداري إذا كان مشوبًا بعيب عدم الاختصاص، فإنه يكون معدومًا بسبب ما شابه من عيب جسيم ولا يتقيد رفع الدعوى في هذه الحالة بميعاد معين». وبناءً عليه، فالقرارات الصادرة عن السلطات التنفيذية بشأن تنظيم الجمعيات، قرارات إدارية مشوبة بعيب عدم الاختصاص، باطلة لانطوائها على عيب جسيم وجوهري يكمن في مباشرة السلطة التنفيذية اختصاص السلطة التشريعية.
التقدير نفسه خلصت إليه دائرة الأمور المستعجلة بمحكمة جنوب بنغازي في 18 يوليو 2022، والتي أقرت تعليق المرسوم 286/2019 الصادر عن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، والذي ينظم عمل مفوضية المجتمع المدني، بعدما تقدمت منظمات المنصة الليبية بطعن على القرار أمام المحكمة.[7]
ولعل الإقرار بعدم شرعية هذه القرارات واللوائح التنفيذية كان موطن الاتفاق الوحيد مع الرأي القانوني الصادر في 7 مارس 2023، عن إدارة القانون الليبية،[8] والذي أقر بعدم مشروعية القرار 286/2019 وأمثاله من القرارات الصادرة عن جهات تنفيذية غير مختصة، ولكنه تضمن رأيًا خطيرًا أخرًا مفاده أن: «جميع الجمعيات المسجلة قبل الثورة بموجب القانون رقم 19 لسنة 2001 الخاص بتنظيم المنظمات سارية وتسجيلها قائم، بينما كل المنظمات والجمعيات المحلية والدولية المسجلة بعد 2011 يعتبر تسجيلها لاغي وباطل». وما هي إلا أيام وصدر في 13 مارس التعميم العام رقم 5803، والذي يقضي بعدم شرعية جميع الجمعيات المسجلة بعد عام 2011 ووقف عملها، ومن ثم يبيح للأمن الداخلي اقتحام مقراتها وغلقها بالقوة ويعرض العاملين فيها للمساءلة القانونية بتهمة عضوية منظمات غير شرعية، ويهددهم بعقوبات بالغة تصل حد الإعدام.[9]
ولآن اللائحة التنفيذية الخاصة بقرار تشكيل إدارة القانون أقرت في المادة 6 بأن: «الرأي القانوني للإدارة ملزم إلا إذا تعارض مع مبادئ المحكمة العليا». ولما كان الرأي القانوني الخاص بإلغاء ترخيص الجمعيات المسجلة بعد 2011 يعارض مبدأ المحكمة العليا في الطعن الدستوري رقم 57/1، الصادر في 23 ديسمبر 2013،[10] والتوصية رقم 96 من تقرير المقرر الخاص المعني بحرية تكوين الجمعيات، والخاصة بأنه؛ لا يمكن للدول الموقعة على العهد الدولي تجريم عمل الجمعيات غير المسجلة، حتى ولو بموجب قانون وطني، لأن الاتفاقية الدولية تعلو على القانون الوطني ويتعين على السلطات التنفيذية الالتزام بها. أصدرت حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة منشورًا (رقم7/2023) في 21 مارس 2023، يسمح للجمعيات المحلية والدولية في ليبيا بمواصلة عملها مؤقتًا، ويقر بشرعيتها (المؤقتة)، وذلك لحين (تصحيح) أوضاعها وفق قانون 19/2001 ا لتنظيم الجمعيات.
وبذلك عاد هذا القانون القمعي المخالف للمعايير الدولية (والذي أضحى بعد 2011 غير دستوري وباطل) مرة أخرى ليكون الإطار التشريعي الناظم لعمل الجمعيات الوطنية والدولية في ليبيا بعد 12 سنة من ثورة 2011.
4-مقترحات بتعديلات شكلية على قانون باطل
كان من المؤسف أن مجلس النواب الليبي تقاعس مرة أخرى عن الامثال لالتزامه الدستوري بسن تشريع جديد يضمن حرية واستقلال المجتمع المدني في ليبيا، فقرر العودة لقانون 19 لسنة 2001، مكتفيًا باقتراح تعديلات شكلية عليه تتلخص فقط في تغيير مسمى الجهة الإدارية التي ستتولى قمع الجمعيات، لتصبح (المفوضية العامة للمجتمع المدني) بدلًا من (اللجنة الشعبية العامة أو مؤتمر الشعب العام) وذلك دون أي تغيير يذكر في طبيعة الصلاحيات الواسعة غير الدستورية المخولة لهذه الجهة.
فبحسب التعديل الذي اقترحه بعض أعضاء مجلس النواب، هذه المفوضية الجديدة، ذات الشخصية الاعتبارية والميزانية المستقلة، ستتبع السلطة التشريعية وتختار رئاسة مجلس النواب أعضائها. وستتولى منفردة، دون إبداء أسباب أو أذن قضائي، قبول أو رفض تسجيل الجمعيات، إيقاف أو حل الجمعية، إلغاء قرارات مجلس إدارة الجمعية وتبديله، والموافقة المسبقة على أي نشاط أو تمويل للجمعية. كما تختص المفوضية بمنح كافة الأذونات، وإتمام الإجراءات القانونية والإدارية، والإشراف والمتابعة للجمعيات والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية.
ومرة أخرى، الصلاحيات الواسعة والقمعية، لا تعصف فقط بحرية واستقلال العمل الأهلي المصونة بموجب الإعلان الدستوري، وإنما تخالف مبادئ حرية التنظيم التي أقرها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وضمانات حرية تكوين الجمعيات حسب المادة (10/1) من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. كما تخالف بشكل جذري المعايير الأساسية الواجبة في أي قانون وطني منظم للعمل الأهلي، والواردة في تقرير المقرر الخاص الأممي المعني بحرية التنظيم الصادر في مايو 2012.
كما أن هذا القانون الوطني ما زال فاقدًا لشرعيته باعتراف السلطة القضائية الليبية، وذلك بموجب الطعن الدستوري رقم 57/01 الصادر في ديسمبر 2013، والذي أوضح أن «الاتفاقية الدولية التي صادقت عليها السلطات التشريعية الليبية تعلو على القانون الوطني. وفي حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) مباشرةً أمام المحاكم الوطنية».
5-قانون جديد ينظم الحق في حرية تكوين الجمعيات
يعتبر مركز القاهرة أن أي قانون وطني ينظم عمل الجمعيات في ليبيا ينبغي أن ينطلق بالأساس من الحقوق المدنية والسياسية التي يكفلها العهد الدولي وتلتزم بها ليبيا، ويتماشى مع الحق في حرية التنظيم المكفول دستوريًا بموجب الإعلان الدستوري 2011، ويتوافق مع تفسيرات لجنة حقوق الإنسان التابعة للمفوضية السامية، خاصةً في طبيعة القيود أو الاستثناءات التي يجوز فرضها عليه وتوجيهات المقررين الخواص المعنيين بحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات بالأمم المتحدة.
وفي هذا السياق، كانت مبادرة المنظمات الليبية باقتراح مشروع لتنظيم الحق في تكوين الجمعيات يضمن حريتها واستقلالية عملها، ويعيد للسلطة التشريعية قبضتها على تنظيم هذا الحق بعيدًا عن قرارات ولوائح السلطات التنفيذية في الشرق والغرب التي تستهدف قمع المجتمع المدني والانتقام من العاملين فيه.
مقترح قانون الجمعيات المدنية صاغته لجان ليبية متخصصة، وخضع للمراجعة والتعديل عدة مرات على مدى 10 سنوات من جانب خبراء ليبيين ودوليين، ودارت حوله مناقشات متعمقة بين الخبراء والمسئولين ذوي الصلة، وتم طرحه للتوقيع والتأييد من جانب المنظمات والجمعيات الليبية واكتسب الكثير من التأييد. وفي يونيو2021 تم تقديمه للجنة التشريعية لمجلس النواب بغية مناقشته وإقراره في الجلسة العامة. ورغم مرور ما يقرب من عامين على ذلك؛ لم تتلق المنظمات المقدمة للمقترحة أي رد من البرلمان.
يضمن مشروع القانون المقترح الحق في تأسيس المنظمات بنظام الإخطار البسيط، ويحمي المنظمات من الحل التعسفي، ومن تدخل الدولة والأجهزة الأمنية في عملها، ويكفل حق وصول المنظمات للتمويل أو التواصل والتعاون مع الجهات الدولية والأممية، مع وضع اللوائح المناسبة لضمان الشفافية والمساءلة. كما ينص القانون المقترح على تشكيل «مفوضية دعم ورعاية شئون المجتمع المدني» وهي هيئة إدارية تنظيمية مستقلة تضمن ممارسة حق تكوين الجمعيات والتجمع السلمي باستقلال وحرية. كما أدخل المشروع حق تقديم العرائض، مكلفًا السلطات الليبية بالرد على العرائض الشعبية المقدمة من المنظمات والمواطنين.
وإذ يعلن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان انضمامه ودعمه لهذه المبادرة، يدعو منظمات المجتمع المدني الليبية الأخرى للانضمام والمشاركة في مراجعة مشروع القانون المقترح، وتبادل الرؤى حوله بهدف تطويره وتحسينه، وتبنّي مطالبه، والضغط من أجل اعتماده من جانب السلطات التشريعية الليبية. ويطالب السلطات التشريعية الليبية بسرعة تبني قانون يضمن حرية واستقلال العمل الأهلي وتكوين الجمعيات بعد تأخره لأكثر من 10 سنوات، وترك المجتمع المدني فريسة لقمع الجهات التنفيذية.
الهوامش
[1] والذي ينص على أن «لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات مع الآخرين، بما في ذلك الحق في تشكيل النقابات والانضمام إليها لحماية مصالحه».
[2] تنص المادة على: «لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات بشرط التزامه بالقانون».
[3] المادة 206: التنظيمات والتشكيلات غير المشروعة: «يعاقب بالإعدام كل من دعا إلى إقامة أي تجمع أو تنظيم أو تشكيل محظور قانونًا أو قام بتأسيسه أو تنظيمه أو إدارته أو تمويله أو أعد مكانًا لاجتماعاته، وكل من انضم إليه أو حرض على ذلك بأية وسيلة كانت. أو قدم أية مساعدة له، وكذلك كل من تسلم أو حصل مباشرة أو بطريق غير مباشر بأية وسيلة كانت على نقود أو منافع من أي نوع أو من أي شخص أو من أية جهة بقصد إقامة التجمع أو التنظيم أو التشكيل المحظور أو التمهيد لإقامته، ويتساوى في العقوبة الرئيس والمرؤوس مهما دنت درجته في التجمع أو التنظيم أو التشكيل أو ما شابه ذلك، وسواء أكان مقر هذا التجمع في الداخل أو الخارج».
[4] بشكل خاص المواد 206،207،208.
[5] تنص المادة 6 من القانون 29؛ الخاصة بطلان التشريعات الظالمة وعدم مشروعيتها بأنه: «يعد ظلمًا وعدوانًا تعطيل الحياة الدستورية في ليبيا، وتعد التشريعات التي أصدرها النظام السابق تعبيرًا عن رغباته ودون أساس شرعي أو دستوري من التشريعات الظالمة وتعتبر لاغية وغير دستورية منذ صياغتها، ولا يصح التذرع بها في مواجهات الحقوق الثابتة ويجب معالجة آثارها السلبية على الفرد والمجتمع». نص القانون: https://security-legislation.ly/ar/law/32096
[6] ملخص قرارات ومبادئ منظمة العمل الدولية (2006)، الفقرة. 699، تجدونها على الرابط التالي:
[7] للتفاصيل راجع، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ليبيا: مركز القاهرة يساند العدالة للجميع في مطالبتها بإلغاء المرسوم 286 القمعي ويطالب السلطات الليبية باحترام الحق في حرية تكوين الجمعيات قبيل الانتخابات. تجدونه على:
[8] إدارة تم تشكيلها في عهد القذافي، بموجب القانون رقم (6) لسنة 1992، وورد في مادته الأولى أن هذه الإدارة تتبع أمانة اللجنة الشعبية العامة للعدل وتعتبر من الهيئات القضائية، وحددت المادة الثانية اختصاصها. تجدون نص القانون هنا: https://security-legislation.ly/ar/law/31937
[9] بموجب المادة 206 من قانون العقوبات، وتعديل قانون رقم 80 لسنة 1975.
[10] والذي أقر أن «الاتفاقية الدولية التي صادقت عليها السلطات التشريعية الليبية تعلو على القانون الوطني، وأنه في حالة التناقض بين القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، يجب تطبيق أحدث (اتفاقية دولية) مباشرة أمام المحاكم الوطنية».
Share this Post