ورقة بحثية: الخطاب الأمني والديني أدوات السلطة لتبرير القمع في ليبيا
25/06/2024
«السلطات الليبية تتعمد توظيف الخطاب الأمني والديني لقمع المعارضة.» كان هذا الاستنتاج محور الورقة البحثية التي أعدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان تحت عنوان «تبرير القمع»، موثقًا مجموعة من الوقائع في الفترة بين عام 2020 و2024 التي تعكس هذا النمط من القمع، سواء من قبل الأجهزة الأمنية أو الجماعات الدينية المسلحة المهيمنة، والمبني بالأساس على التحريض على النشطاء الحقوقيين والسياسيين، بل والزج بهم في السجون، وغلق مؤسساتهم، بدعوى تهديدهم للأمن العام أو مخالفتهم وعدائهم للدين وقيم المجتمع.
تعاني ليبيا من الانقسام، إذ تتنافس فيها حكومتان وعدد من الكيانات المسلحة. وقد أدت هذه البيئة الانقسامية إلى إحباط جميع الجهود الدولية والمحلية المتطلعة للإصلاح. ولكن رغم التنافس والانقسام، تشترك السلطات في الشرق بقيادة خليفة حفتر، وفي الغرب تحت سيطرة حكومة عبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليًا، في سمة رئيسية واحدة هي؛ الاستهداف المنهجي للنشطاء السياسيين والحقوقيين، وقمع كل أشكال المعارضة سواء باستخدام الخطاب الديني أو المبررات الأمنية، وتوظيف الإطار القانوني القمعي للانتقام منهم. ولعل خطورة هذا المشهد السياسي المعقد تتضاعف بعدما أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في 9 يوينو الجاري، عن بدء عملية تسجيل الناخبين لانتخابات المجالس البلدية في 60 بلدية، بما في ذلك بلديات انقضت وأخرى مستحدثة تُدار حاليًا بمجالس تسيرية. ويخشى مركز القاهرة تنامى القمع خلال هذه الفترة كما سبق وحدث في انتخابات أغسطس 2020. حين هاجم لواء سلفي مسلح تابع للجيش الوطني الليبي مراكز الاقتراع في بلدية تراغن جنوب غربليبيا، وأخرى في بلدية القطرون، وأغلقهم ومنع إجراء الانتخابات فيهم، فقررت اللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية تعليق الانتخابات في البلديتين لأسباب أمنية. وقبل أيام قليلة من إعصار درنة في سبتمبر 2023، أحرق أعضاء كتائب "أولياء الدم" الموالية لحفتر ملصقات الدعاية لمرشحي انتخابات المجلس البلدي، وهددوا المرشحين بالاختطاف والقتل، مطالبين بإلغاء الانتخابات وتعيين حاكم عسكري.
تحظى الأجهزة الأمنية إلى جانب الفصائل المسلحة، المتأثرة بالإيديولوجية السلفية المدخلية، بحضور متمكن في كل من شرق ليبيا وغربها. وقد تسبب الاندماج بين هذه الأجهزة وبين الجماعات المسلحة الكبرى في تعزيز قوتهما العسكرية بشكل كبير، وتنامي نفوذهما السياسي على الحكومات المتنافسة. وحاليًا تعمل الجماعات المسلحة تحت إشراف جهاز الأمن الداخلي في شرق ليبيا وغربها، وتتولى بشكل أساسي قمع حريات التعبير وتكوين الجمعيات، ومصادرة حقوق النساء، مستخدمًة تشريعات القذافي، ومبررةً انتهاكاتها بادعاءات الالتزام الأخلاقي والديني وحماية الأمن والسلم المجتمعي.
في تحليلها، استندت الورقة البحثية إلى 45 حالة وواقعة، تنوعت بين نشطاء مجتمع مدني أو شخصيات سياسية أو مدافعين عن حقوق الإنسان، على نحو يعكس ويثبت حجم اتساع القمع الممنهج لإسكات المعارضة وتقييد الحريات المدنية، من خلال الاعتقال التعسفي والملاحقات القضائية والتلاعب الممنهج بالخطاب الأمني والديني. وامتداد هذا النمط من القمع لاستهداف أيضا المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية، التي يتم تبرير غلقها أو حلها أو تعطيل أنشطتها استنادًا للمبررات نفسها.
وقد خلصت الورقة أيضًا لتوظيف حكومتي الشرق والغرب لقوانين النظام السابق القمعية، ومصطلحاتها غير المنضبطة، لتكيل الاتهامات وتعاقب وتنتقم من كل أصحاب الآراء المختلفة عن تلك التي تمليها الدولة أو يفرضها المجتمع. بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر؛ بعض مواد قانون العقوبات الليبي التي تفرض عقوبة تصل حد الإعدام على ممارسة الحريات الأساسي، وقانون الجرائم الإلكترونية، وقانون تنظيم الجمعيات. فضلاً عن القرارات واللوائح الرسمية التي تصدرها السلطات التنفيذية في الشرق والغرب، وخطابات التحريض والتشهير والتهديد في المنابر الإعلامية.
وفي هذا السياق وثقت الورقة أيضًا مجموعة من حالات الاعتقال والاحتجاز التعسفي التي تبررها تهديدات أمنية غامضة، تفتقد على الأغلب لأي أدلة، أو ربما تستند لاعترافات تم انتزاعها تحت التعذيب والإكراه، فضلاً عن الانتهاكات الخطيرة في أماكن الاحتجاز، والتي تتقاعس السلطات الليبية عن فحصها أو التحقيق فيها، بما في ذلك حالات الوفاة الغامضة في أماكن الاحتجاز، مثل واقعة وفاة الناشط السياسي سراج فخر الدين دوغمان في سجن غير رسمي داخل مقر القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية في الرجمة جنوب شرق بنغازي، والذي كان قد تم احتجازه بسبب مشاركته في مناقشات سياسية حول الانتخابات المرتقبة. كما وثقت الورقة انخراط أعضاء جهاز الأمن الداخلي في وقائع احتجاز تعسفي أخرى لمدافعين عن حقوق الإنسان ومدونين، تحت ستار حماية "القيم المتأصلة في ليبيا وحماية قيم الإسلام". وفي معظم هذه الحالات، سلطت الورقة الضوء على نمط متكرر يتمثل في انتزاع السلطات للاعترافات القسرية، التي يبثها جهاز الأمن الداخلي علنًا على وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية، على نحو ينطوي على انتهاكات جسيمة لخصوصية الأفراد والإجراءات القانونية الواجبة، وتحمل رسائل تهديد وترهيب لبقية المجتمع.
لقد سجلت السلطات الليبية مستويات جديدة من القمع خلال السنوات الأربعة الماضية، فتم احتجاز العشرات لمجرد تعبيرهم عن آرائهم، وامتد الخناق حتى للمعارضين في الخارج، فضلاً عن سيطرة السلطات على الخطاب العام القائم على الترهيب والتهديد. على السلطات الليبية التوقف عن إثارة المخاوف الأمنية الزائفة وتوظيف الخطاب الديني لخنق المعارضة.
في ختام الورقة قدم مركز القاهرة مجموعة من التوصيات التي تنطلق أولاً من إطلاق سراح جميع النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان المحتجزين لمجرد ممارستهم لحقوقهم في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع، وفتح تحقيقات مستقلة في جميع حالات الاحتجاز التعسفي والوفاة أثناء الاحتجاز، ومساءلة المسئولين عنها. كما طالب المركز بإلغاء المواد القمعية في قانون العقوبات، لا سيما تلك التي تفرض عقوبة الإعدام على ممارسة الحريات الأساسية، ومراجعة قانون الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022، ووقف العمل بالقانون رقم 19 لسنة 2001 الخاص بتنظيم العمل الأهلي، وإصدار مرسوم مؤقت ينظم هذا الحق لحين إصدار قانون جديد يضمن حرية واستقلال المجتمع المدني ويتسق مع المبادئ الدولية.
تبرير القمع
توظيف الخطاب الأمني و الديني لقمع المعارضة في ليبيا
تخضع مدينتنا لسيطرة القوات المسلحة العربية الليبية، التي تخضع بدورها لقيادة خليفة حفتر للمنطقة الشرقية بالكامل. وقد حذر هذا الأخير في بلاغ له المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان وأي منظمة من مزاولة أي نشاط داخل المدينة دون الحصول على موافقة مسبقة من المنطقة العسكرية. وأن كل من يعارض هذا القرار يعرّض نفسه للمساءلة القانونية.
تسلط هذه الورقة البحثية الضوء على القمع الممنهج للفضاء المدني في ليبيا بين عام 2020 وحتى عام 2024. فمن خلال الحالات الواردة في هذه الورقة، يستعرض مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان؛ كيف تقمع أجهزة الدولة والسلطات الليبية في شرق البلاد وغربها الأصوات المعارضة، وتهاجم المدافعين عن حقوق الإنسان، ضمن حملة واسعة النطاق من الاعتقال التعسفي والملاحقات القضائية والتلاعب الممنهج بالخطاب الأمني والديني.
تستعرض الورقة الاستراتيجيات المعقدة المستخدمة لقمع المعارضة، من خلال عرض 45 حالة قمع بعد مراجعة شاملة للمصادر الأولية والثانوية لكل حالة، واستعراض الإطار القانوني الليبي، والأحكام الصادرة عن المحاكم الليبية، وغيرها من الوثائق والقرارات واللوائح الرسمية، وذلك لشرح وتحليل الأطر القانونية والمؤسسية التي يتم توظيفها لإسكات المعارضة وعرقلة جهود الإصلاح في البلاد.
بسبب التهديدات الشديدة لسلامة المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان اضطر بعضهم لمغادرة البلاد
كثيرًا ما يتم توظيف الدواعي الأمنية كمبرر لاعتقال النشطاء وإساءة معاملتهم، في ظل ظروف تزخر بانتهاكات الإجراءات القانونية الواجبة. ومن الحالات المثيرة للقلق بشكل خاص حالة الناشط السياسي المعروف (سراج فخر الدين دغمان)؛ الذي لقي حتفه في ظروف غامضة أثناء احتجازه بمعسكر الرجمة العسكري، المستخدم كسجن غير رسمي. وقد تم اعتقال دغمان دون محاكمة أو تهم، إذ بررت السلطات اعتقاله بأنه يشكل 'تهديدات أمنية'. كما نسلط الضوء على اتجاه مثير للقلق يتمثل في انتزاع السلطات للاعترافات القسرية، التي يبثها جهاز الأمن الداخلي علنًا، وتنطوي على انتهاكات جسيمة لخصوصية الأفراد والإجراءات القانونية الواجبة، وغالباً ما تكون تحت الإكراه.
كثفت السلطات الليبية من توظيف الخطاب الديني والأخلاقي لتبرير حملاتها القمعية على المعارضة. ويتضح ذلك بشكل خاص في حالات محاكمة الأفراد بتهمة 'الترويج للإلحاد' أو 'رفض المعتقدات الدينية'. وكثيرًا ما تستند مثل هذه الاتهامات إلى تفسيرات ذاتية للأخلاق، وتُستخدم لاستهداف وإسكات أصحاب وجهات النظر المختلفة، وبالتالي خنق حرية الفكر والتعبير تحت مزاعم حماية القيم الدينية.
يتم التلاعب بقوانين محددة، أبرزها قانون الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022 وبعض مواد قانون العقوبات الليبي، لتجريم العديد من أشكال التعبير والحق في التجمع والتنظيم. هذه القوانين الفضفاضة والغامضة الصياغة، تعطي السلطات سلطة تقديرية واسعة في تحديد الأفعال الإجرامية. فعلى سبيل المثال، يتم توظيف قانون الجرائم الإلكترونية لاستهداف النشطاء والمدونين عبر الإنترنت، من خلال تصنيف انتقاداتهم للسياسات الحكومية على أنها تهديدات إلكترونية، مما أدى بشكل فعال إلى إضعاف الخطاب العام والعزوف عن المشاركة المدنية.
45
استخدم مركز القاهرة المنهج المختلط في عملية جمع المعلومات، لضمان فهم شامل لمشهد حقوق الإنسان في البلاد، إذ أجرى المركز مقابلات مع 6 نشطاء ومدافعين ليبيين، لعرض رؤيتهم حول التحديات التي تواجه الفضاء المدني في ليبيا. هذه المقابلات تم إجراءها عبر منصة رقمية آمنة، باللغة العربية، دون مترجمين فوريين لضمان دقة المعلومات المتبادلة، وحماية أمن المشاركين.
كما تولى الباحثون بالمركز مراجعة الاعترافات المسجلة لـ 20 شخصًا، والتي نشرتها السلطات الليبية، ومقارنة وفحص المعلومات الواردة فيها، من خلال التواصل المباشر مع أصحابها أو محاميهم أو أفراد أسرهم، فضلاً عن مصادر أخرى.
وبالتوازي، فحص باحثو المركز أوراق 19 قضية، لأفراد تم اعتقالهم بسبب ممارسة حقوقهم الأساسية، والأحكام الصادرة بحقهم. هذا بالإضافة إلى مراجعة التصريحات العامة والمقابلات الصحفية والإعلامية التي أجراها مسئولون ليبيون، لفهم ماهية الخطاب السياسي، وتوجهات السياسات الرسمية، التي تساهم في خلق بيئة قمعية لحرية التعبير ولحرية التنظيم في ليبيا.
ولدعم هذه المصادر الأولية، راجع الباحثون أيضًا مجموعة من التقارير الدولية الهامة، بما في ذلك تقارير الأمم المتحدة، فضلاً عن مراجعة العديد من وثائق حقوق الإنسان، والتقارير التي قدمت خلفية تاريخية وقانونية ساعدت على تأطير حالات محددة من القمع ضمن نمط أوسع من انتهاكات الحقوق.
وبشكل إجمالي، تسلط هذه الورقة البحثية الضوء على 45 حالة، لا تمثل مسحًا شاملاً لجميع حوادث القمع منذ عام 2020. إذ تم اختيار هذه الحالات المتنوعة على نحو يعكس ويثبت حجم اتساع وعمق جهود الحكومة لإسكات المعارضة وتقييد الحريات المدنية، تحت مزاعم حماية الأمن القومي وحماية القيم الثقافية، ويسلط الضوء على الوضع الخطير لحقوق الإنسان في ليبيا، على المستويين المحلي والدولي، في محاولة لوقف هذه الانتهاكات.
في معظم الحالات، تم تغيير الأسماء والمعلومات التعريفية للأشخاص بما في ذلك الاسم والجنس والعمل والانتماء، وحذف أسماء المدن والمناطق، وغيرها من التفاصيل قد تسهم في تحديد هوية النشطاء، لضمان عدم الكشف عن هويتهم وحمايتهم من الأعمال الانتقامية.
ليبيا بلد منقسم، حيث تتنافس حكومتان وكيانان منفصلان على السلطة، وتستنزف البيئة السياسية المتحجرة جميع الجهود الدولية والداخلية لإحراز تقدم في أجندة الإصلاح. ومع ذلك، فإن السلطات في الشرق والجنوب بقيادة خليفة حفتر، وفي الغرب حيث تسيطر حكومة عبد الحميد دبيبة المعترف بها دوليًا، تشترك في سمة أساسية واحدة هي؛ الاستهداف الواضح والممنهج للنشطاء والمعارضة وقمع الفضاء المدني، عبر خطابات وممارسات قمعية وتوظيف للقوانين القمعية المفروضة على البلاد.
على مدى السنوات الأربعة الماضية، شهدت ليبيا تقلصًا كبيرًا في الفضاء المدني، إذ واصلت السلطات ملاحقة المواطنين المنخرطين في المعارضة السياسية ومختلف أشكال المعارضة، وذلك باستخدام قوانين غامضة ومتحايلة، تُجرم حرية التعبير وتصادر الحق في تكوين الجمعيات والتجمع. واحتجزت السلطات واستجوبت النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم، بسبب تعبيرهم عن آرائهم، أو لكونهم مدافعين عن الحقوق والحريات.
تصاعدت الهجمات منذ 2020 ضد حرية التعبير وتكوين الجمعيات، عبر توظيف خطاب ديني وأمني وأخلاقي يشيطن المدافعين عن حقوق الإنسان وأعضاء المجتمع المدني، ويوصمهم بعملاء الأجانب الذين يهدفون لزعزعة استقرار ليبيا، أو مروجي "الفجور" في البلاد.
وقد واجهت منظمات المجتمع المدني المحلية وكذا المنظمات الدولية العاملة في ليبيا تحديات كبيرة جراء هذه الإجراءات والممارسات، مما أثر سلبًا على أنشطتها.
مرت الحملة ضد المجتمع المدني في ليبيا بعدة مراحل؛ بدأت بالمؤسسة الدينية، التي قادت حملات تشهير وشيطنة لتشويه خطاب النشطاء، والطعن في أخلاقهم، وربط المجتمع المدني بالتهديدات المتصورة للمجتمع؛ وخاصة التنصير والارتداد. فشاعت المضايقات والملاحقات القضائية، إذ أضحت الأجهزة الأمنية تتذرع بذرائع دينية وأخلاقية للتحريض على عداء أعضاء المجتمع المدني. كما واجه المدافعون أيضًا تهم التجسس والخيانة والعمل لصالح الغرب، وهي تهم ملفقة سواء من قبل جهاز الأمن الداخلي وقوات الردع في الغرب، أو من قبل جهاز الأمن الداخلي وكتيبة طارق بن زياد في الشرق والجنوب، الأمر الذ وصل حد خطف النشطاء السلميين وإخفائهم قسرًا، أو الزج بهم في السجون.
يعتبر الإطار القانوني المنظم لعمل منظمات المجتمع المدني في ليبيا هشّ للغاية، لا سيما بسبب العديد من الإجراءات المقيدة التي فرضتها السلطات في شرق وغرب ليبيا من عام 2016 وحتى2023.[1] إذ أصدرت السلطات الليبية الشرقية والغربية 7 قرارات ولوائح إدارية لتقييد عمل المنظمات الوطنية والدولية. وقد استهدفت هذه القرارات واللوائح بشكل خاص منظمات حقوق الإنسان، التي أضحت أكثر عرضة لخطر مداهمة مقارها، وتعليق أنشطتها، وتجميد أصولها بل وحلها، دون أمر قضائي.
تشمل هذه القرارات واللوائح؛ القرار رقم 1 والقرار رقم 2 لعام 2016، الصادرين عن حكومة الشرق. والقرار رقم 286 الصادر عن المجلس الرئاسي في طرابلس عام 2019. والقرار رقم 5 لعام 2023 الصادر عن مفوضية المجتمع المدني لحكومة طرابلس.
وبسبب هذه القرارات، تضطر منظمات المجتمع المدني إلى توقيع تعهد بعدم التواصل مع الكيانات الأجنبية دون موافقة الحكومة، على نحو يقوض عملها واستقلالها. كما يتعين على المنظمات الحصول على إذن مفوضية المجتمع المدني لتلقي تمويل أو الانخراط في تنفيذ أي مشروع. ومنذ مارس 2023، وبالتزامن مع ختام أعمال بعثة تقصي الحقائق الأممية في ليبيا، تواترت الهجمات على المجتمع المدني؛ مقترنة بتنامي الخطاب الديني المتطرف، واعتماد قوانين ومراسيم جديدة تُزيد من خنق المجتمع المدني.
حملة القمع المتواصلة للمجتمع المدني في ليبيا، تمثل حلقة من سلسلة انتهاكات واسعة ترتكبها حكومتا الشرق والغرب، لتعزيز القبضة القمعية على المجتمع. كما تحظى الأجهزة الأمنية إلى جانب الفصائل المسلحة، المتأثرة بالإيديولوجية السلفية المدخلية،[2] بحضور متمكن في كل من شرق ليبيا وغربها. وقد تسبب الاندماج بينها وبين الجماعات المسلحة الكبرى في تعزيز قوتها العسكرية بشكل كبير، وتنامي نفوذها السياسي على الحكومات المتنافسة التي ظهرت بعد عام 2014.
وحاليًا تعمل الجماعات المسلحة تحت إشراف جهاز الأمن الداخلي في شرق ليبيا وغربها، وتتولى بشكل أساسي قمع حريات التعبير وتكوين الجمعيات، ومصادرة حقوق النساء، مستخدمًة تشريعات القذافي، ومبررةً انتهاكاتها بادعاءات الالتزام الأخلاقي والديني.
يعد القرار الصادر في مايو 2023، من هيئة دينية رسمية؛ هي الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية (المعروفة بالأوقاف)، لمكافحة ما تم تسميته "الانحرافات الدينية والفكرية والأخلاقية"؛ انعكاس واضح لحجم وطبيعة التوظيف المتزايد للخطاب الديني في القمع.
وربما استنادًا لهذا القرار، نشر جهاز الأمن الداخلي، في الفترة بين مايو وديسمبر 2023، على موقعه الرسمي على شبكة الإنترنت، اعترافات "قسرية" مصورة لـ 20 شخصًا، تغطي مجموعة من "الجرائم" المزعومة، ومنها جرائم "أخلاقية ودينية."
ففي 30 ديسمبر 2023، نشر جهاز الأمن الداخلي مقطع مصور[3] يتضمن اعترافات لـ 10 مواطنين (ثلاث نساء وسبعة رجال) يعترفون بتهم تشمل؛ "الترويج للإلحاد"، و"التخلي عن العقيدة"، و" نبذ المعتقدات الدينية"، و"الانخراط في المثلية الجنسية". وفي اليوم نفسه، تم نشر مقطع آخر[4] لـ 4 مواطنين (ثلاثة رجال وامرأة) يعترفون فيه؛ بـ "اعتناق مفاهيم ليبرالية" و"المشاركة في تبادل الأزواج." وكان جهاز الأمن الداخلي قد نشر في 13 أبريل 2023، مقطع فيديو يتضمن اعترافات لـ 3 أشخاص (رجل أمريكي وأخر ليبي وامرأة) بارتكاب "جريمة" النشر والتبشير والتحول للمسيحية في ليبيا.[5] هذا بالإضافة لفيديو أخر لرجلين (أمريكي وليبي) يعترفان بـ "نشر" و "التبشير" بالمسيحية في ليبيا،[6] تم نشره في 12 أبريل. فضلاً عن فيديو أخر يعود تاريخه لليوم العاشر من الشهر نفسه، لرجل ليبي يعترف فيه باعتناق المسيحية.[7]
يستند حظر الأنشطة التبشيرية والتحول الديني في ليبيا إلى تشريعين؛ قانون العقوبات المعدل لعام 1953، والقانون رقم 20 لعام 2016. ورغم أنه لا يوجد مادة في قانون العقوبات تحظر صراحًة العمل التبشيري أو تعاقب على الردة، إلا أن المادتين 291 و207 من قانون العقوبات هما الأكثر استخدامًا في هذا الصدد.
تصنف المادة 291 "إهانة دين الدولة" كجريمة جنائية عقوبتها السجن عامين، بما في ذلك تداول أي ألفاظ "لا تليق بالذات الإلهية أو الرسول أو الأنبياء."[8] بينما تحظر المادة 207 المشاركة في أي جهد لنشر "أيديولوجيات أو نظريات أو مبادئ ترمي لتغيير مبادئ الدستور الأساسية، أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية، أو لقلب نظم الدولة الأساسية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو لهدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية." وتصل العقوبة في هذا الصدد حد الإعدام.[9] أما القانون رقم 20 لسنة 2016، والخاص بتعديل المادة 291 من قانون العقوبات، فينص على أن الردة - سواء بالقول أو الفعل- يمكن أن تصل عقوبتها حد الإعدام،[10] مع جواز إلغاء الحكم (الإعدام) إذا تاب المتهم قبل تنفيذ العقوبة وتراجع عن معتقداته. كما يقضي هذا القانون بالإعدام لأي شخص غير مسلم يثبت أنه يشوه الإسلام علانية.
المشهد القانوني في ليبيا معقد بسبب القوانين والممارسات القضائية المتناقضة. فرغم أن القانون رقم 1 لسنة 2020 يعتبر كافة قوانين المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته في 3 أغسطس 2014 لاغية وباطلة، إلا أن السلطات القضائية الليبية لا زالت تباشر العمل بالقانون رقم 20 لسنة 2016، بسبب عدم وجود حكم محدد من المحكمة العليا بشأنه يعتبره غير قانوني.
إن تطبيق هذا القانون، إلى جانب مواد قانون العقوبات، يمثل قيد إضافي على حرية التعبير وتكوين الجمعيات، علمًا بأنه حتى في غياب المبرر القانوني للقمع، يتعمد جهاز الأمن الداخلي توظيف هذه النصوص القانونية المثيرة للجدل، لقمع المدونين ومنظمات المجتمع المدني والجماعات النسوية التي تنتقد موقف الدولة من القضايا الدينية.
فضلاً عن أن توظيف خطاب السيادة الوطنية والحجج الدينية في القمع، لم يقتصر فقط على الأفراد، إذ تستهدف أجهزة الدولة الليبية أيضًا المنظمات وجمعيات المجتمع المدني، مستندةً لهذه النصوص القانونية والادعاءات الأمنية والدينية، مكيلةً لهم الاتهامات بتبني أيديولوجيات مضادة وارتكاب أفعال تتنافى مع الأخلاق الدينية.
ففي يونيو 2023، أرسل عماد مصطفى الطرابلسي، وكيل وزارة الداخلية، مذكرة رسمية إلى عبد الحميد الدبيبة، رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية، جاء فيها؛
هناك منظمات أجنبية غير حكومية، مثل هيومن رايتس ووتش وخاصة منظمة العفو الدولية، حصلت على إذن من سلطة قانونية غير مرخص لها، وهي مفوضية المجتمع المدني، وقد انحرفت عن الغرض الذي منحت من أجله الإذن، فدعمت وروجت للإلحاد والشذوذ الجنسي وغيرها من الأفعال الضارة بالمصالح العليا للدولة والمجتمع، بما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين السائدة في الدولة، ويحتقر عادات وتقاليد المجتمع الليبي.
إن الاتهامات الموجهة للمنظمات الدولية بأنها حصلت على الآذن من جهة غير مرخصة (مفوضية المجتمع المدني) وأن أنشطتها تتعارض مع الشريعة الإسلامية والقوانين الوطنية والأعراف المجتمعية، بما في ذلك الترويج للإلحاد والمثلية الجنسية، تعد اتهامات خطيرة ومضللة. لا تقتصر خطورتها فقط على تحريف العمل في مجال حقوق الإنسان فحسب، وإنما توظيف القيم الدينية والاجتماعية كسلاح لتقويض عمل منظمات المجتمع المدني.
هذا الخطاب يسلط الضوء على استراتيجية مستمرة تتسع من أجل قمع المعارضة، والسيطرة على الخطاب حول حقوق الإنسان، وتبرير الإجراءات القمعية بحق المنظمات الحقوقية بدعوى أنها تمثل تهديد للدولة الليبية والوحدة الوطنية والقيم الإسلامية.
ففي مقابلة تلفزيونية مع قناة ليبيا المستقبل، في 14 يناير 2024، أكد فرج أقعيم،[11]وكيل وزارة الداخلية الليبية؛ أن ثمة فريق داخل الوزارة معني بالأساس بما أسماه "الأمن السيبراني"، هذا الفريق مكلف بمهمة؛ مراقبة أنشطة/سلوك المواطنين الليبيين على الإنترنت.[12]محذرًا علانية من أن أي شخص ينتقد المسئولين الحكوميين أو الوزارة عبر الإنترنت سيتم اعتقاله بسرعة، وربما يتم احتجازه فورًا في اليوم التالي، دون أي إجراءات قضائية. كما أشار إلى أن هذه الإجراءات تمتد أيضًا للمقيمين في الخارج، إذ لدى الحكومة قدرة على التعاون مع الإنتربول لتسليم معارضي الدولة المقيمين في الخارج.
هذه الإجراءات والممارسات تمثل قمعًا مروعًا لحرية التعبير وانتهاكًا خطيرًا للخصوصية.
وثق مركز القاهرة 10حالات لنشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان وأفراد تم اعتقالهم تعسفيًا بسبب ممارستهم لحقوقهم الأساسية في حرية التعبير وتكوين الجمعيات. ومن المؤسف أن واحدة من هذه الحالات انتهت بشكل مأساوي، بوفاة ناشط سياسي في ظروف غامضة أثناء احتجازه، بينما لا يزال 4 محتجزين آخرين مصيرهم غير مؤكد. وفي جميع هذه الحالات، بررت السلطات الاعتقال بحجج تتعلق بالأمن العام والاستقرار، زاعمًة أن المقبوض عليهم يشكلوا تهديدًا للاستقرار الوطني، أو انخرطوا في محاولات لتقويض المؤسسات الحكومية أو العسكرية. هذه الادعاءات التي غالبًا ما تفتقر للأدلة الشفافة، تُستخدم بشكل متواصل لقمع المعارضة وأنشطة المجتمع المدني المشروعة.
في 19 أبريل 2024، توفي الناشط السياسي سراج فخر الدين دغمان في محبسه غير الرسمي، في ظروف غامضة. إذ كان رهن الاحتجاز في سجن غير رسمي داخل مقر القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية بالرجمة جنوب شرق بنغازي. وقد أخطرت الجهات الأمنية ذويه بوفاته صباح يوم الوفاة، وتم تسليم الجثمان للأسرة مساء اليوم نفسه.
قبل احتجازه ووفاته، كان دغمان يشغل منصب مدير فرع بنغازي لمركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية. وقد تم احتجازه بشكل تعسفي في 1 أكتوبر 2023، في منشأة يديرها جهاز الأمن الداخلي، مع 4 نشطاء آخرين هم؛ فتحي البعجة، وطارق البشاري، وناصر الدعيسي، وسالم العريبي. ولم يخضع المحتجزون الخمسة للمحاكمة، ولم يتثنى لهم التواصل مع محاميهم. هؤلاء تم اعتقالهم عقب مشاركتهم في سبتمبر2023 في مناقشات حول الوضع السياسي في ليبيا والانتخابات المقبلة،[13] وتم اتهامهم بمحاولة الإطاحة بالهيئات السياسية والمؤسسة العسكرية، وتحديدًا القيادة العامة للقوات العربية المسلحة الليبية. وبحسب أحد أفراد عائلاتهم لم يحظى المحتجزون خلال هذه المدة بأي تمثيل قانوني، ولم يسمح لأي من ذويهم بالزيارة.
كان جهاز الأمن الداخلي لشرق ليبيا، قد زعم في بيان مصور منشور، أن اعتقال دغمان جاء بسبب مشاركته في اجتماعات تهدف إلى الإطاحة بالهيئات السياسية والمؤسسات العسكرية، بما في ذلك القيادة التي للمشير خليفة حفتر. وبحسب بيان الأمن الداخلي، توفي دغمان أثناء محاولة هروبه عبر نافذة دورة المياه، إذ سقط من الطابق الرابع ووافته المنية. كما تضمن هذا البيان الرسمي تحذيرًا واضحًا لأي شخص يتحدث علنًا عن هذه القضية، ويهدد صراحةً بإجراءات ضده (لم يحددها).
وفق المادة 175 من قانون الإجراءات الجنائية الليبي، تسري أوامر الحبس الصادرة مبدئيًا عن النيابة العامة لمدة 6 أيام فقط، وأي تمديد لهذه الفترة ينبغي أن يتم بموافقة النيابة العامة، ويفصل فيه قاض مختص بعد سماع أقوال كل من النيابة والمتهم. هذه الخطوة الحاسمة تهدف إلى الحماية من الاعتقال التعسفي، لكن في حالة دغمان، على سبيل المثال، على الأرجح لم يتم عقد هذه الجلسة، أو أي جلسة تحقيق تتسّم بمبادئ العدالة والشفافية.
لقد تم احتجاز دغمان وزملائه في ظروف غير إنسانية، لا تفي بالشروط الواجبة، بما في ذلك حرمانهم من التمثيل القانوني، وتمديد فترة احتجازهم دون مراجعة قضائية واضحة، الأمر الذي يسلط الضوء على حجم تجاهل الإجراءات القانونية الواجبة على نحو يطعن في الصحة القانونية للاحتجاز، ويثير المخاوف الجدية بشأن أوضاع حقوق الإنسان في البلاد.
وفيما يسمح القانون الليبي باستئناف أوامر الحبس (المادة 177)، كآلية لمراقبة وتصحيح القرارات القضائية، إلا أن تخطي مثل هذه الإجراءات في قضية دغمان لا يشكل انتهاكًا للقانون الليبي فحسب، بل ينتهك أيضًا المعايير الدولية لحقوق الإنسان، التي تضمن الحق في محاكمة عادلة وتمثيل قانوني. ولعل وفاة دغمان في "سجن غير رسمي" داخل قاعدة عسكرية، يضاعف من حجم القلق بشأن وجود مرافق احتجاز غير مصرح بها، بمعزل عن الضمانات القانونية أو الرقابة التي يقتضيها القانون الليبي على مرافق الاحتجاز، مما يشكل خطرًا كبيرًا باحتمالية ارتكاب جرائم التعذيب وسوء المعاملة وغيرها من أشكال الانتهاكات فيها.
وفي واقعة أخرى، مثيرة للقلق أيضًا، تم اعتقال الشيخ علي مصباح أبو سبيحة من منزله في سبها، يوم الجمعة 19 أبريل 2024. وهو زعيم اجتماعي بارز في جنوب ليبيا، ورئيس المجلس الأعلى لقبائل ومدن فزان، تم اعتقاله بعدما صرح بدعمه للانتخابات الرئاسية وتأييده لترشيح سيف الإسلام القذافي فيها.
وفي الفترة بين مارس ومايو 2023، تم تهديد وملاحقة العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان في إحدى مدن جنوب شرق ليبيا. وبحسب المدافع عن حقوق الإنسان (م.ف) في مقابلة مع مركز القاهرة؛ زار المدينة في 7 مارس 2023 وفد أممي، ضم مسئولين من صندوق الأمم المتحدة الانمائي، واليونيسيف، وبرنامج الأغذية العالمي، وصندوق الأمم المتحدة لدعم السكان، والمنظمة الدولية للهجرة، للتعاون مع السلطات المحلية لتنفيذ مشروعات تنموية بالمدينة، حسبما ذكرت وسائل إعلام ليبية. كما زار الوفد عدد من ممثلي بعض السلطات المحلية بالمدينة وعدد من المؤسسات المجتمعية.[14]وبعد شهرين من الزيارة، تحديدًا في 6 مايو 2023، أصدر جهاز المخابرات العامة بالمنطقة الشرقية تحذيرًا لمنظمات المجتمع المدني المحلية وجميع المؤسسات العامة التي تتلقى تمويلًا أو دعمًا عينيًا من جهات أجنبية، بأنها إذ لم تكشف عن مواردها المالية وتحركات أي موظفين أجانب، ستكون عرضة للملاحقة القانونية والتدابير الأمنية. وقد سبق هذا الإشعار اعتقال مجموعة من العاملين في منظمات المجتمع المدني، كانوا قد التقوا بالوفد الأممي.
ويضيف (م.ف) لمركز القاهرة:
تخضع مدينتنا لسيطرة القوات المسلحة العربية الليبية وبالتالي تخضع لقيادة خليفة حفتر للمنطقة الشرقية بالكامل. هذا الأخير نشر بلاغ[15] حذّر فيه المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان وأي منظمة من مزاولة أي نشاط داخل هذا المدينة دون الحصول على موافقة مسبقة من المنطقة العسكرية. وكل من يعارض هذا القرار يتحمل المسئولية القانونية.
وفي 12و13 مايو 2023، تم اعتقال شخصين، أحدهما يعمل لصالح منظمة دولية ضمن مبادرة (آرا باشي للسلام) وهو ممثلها القانوني في جنوب ليبيا، وذلك بتهمة العمل على توطين المهاجرين في المنطقة.[16]وقد تم إجبار أحدهما (ليبي الجنسية) على تسجيل مقطع مصور في جهاز الأمن الداخلي يعترف فيه بالعمل ضد الدولة الليبية وانتهاك قانون مكافحة الهجرة،[17] فضلاً عن اتهامه بالتعاون مع كيانات دولة أجنبية. علمًا بأن مبادرة (آرا باشي) تعمل ضمن أهدافها على دمج المهاجرين في ليبيا.
وبحسب (م.ف) ذكر في لقائه مع المركز أنه أضطر لمغادرة البلاد بعد نشر الفيديو الخاص باعتراف عضو مبادرة (آرا باشي)، خوفًا من القبض عليه، وحفاظًا على سلامته باعتباره ينتمي لـ "الطوارق".[18]ولما لم يتمكن (م.ف) من الحصول على جواز سفر من الحكومة الليبية، وصل تونس في مارس 2023 هاربًا من اضطهاد جهاز الأمن الداخلي.
أما الصحفي والمدافع عن حقوق الإنسان، منصور عاطي المغربي، والذي كان يشغل منصب رئيس فرع الهلال الأحمر ومفوضية المجتمع المدني في مدينة أجدابيا، شمال شرق ليبيا، فقد تم اختطافه في 3 يونيو 2021، بالقرب من مكان عمله.[19] وبعد احتجازه بمقر جهاز الأمن الداخلي في أجدابيا (التابع للقوات المسلحة العربية الليبية في شرق ليبيا)[20] لبضعة أيام حيث تم استجوابه، تم نقله لسجن طارق بن زياد.
وفي مقابلته مع مركز القاهرة قال المغربي:
تم اختطافي وإخفائي قسرًا، بدايةً في سجن قنفودة، ثم تم نقلي لسجن طارق بن زياد حيث قضيت عشرة أشهر هناك.
وكان قد تم استدعاء المغربي للاستجواب في مناسبات متعددة قبل احتجازه، بما في ذلك في 13 فبراير 2021 و24 ديسمبر 2020.[21]
ويتابع المغربي:
قبل الاختطاف، كانت هناك سلسلة من الاستدعاءات من رئيس جهاز الأمن الداخلي في المناطق التي يسيطر عليها حفتر. تم استدعائي واستجوابي لمدة 12ساعة بشأن أنشطتي المدنية في المنطقة. وبعد أسبوع، تم استدعائي من قبل اللواء عون الفرجاني المقرب من خليفة حفتر ورئيس هيئة القضاء والسيطرة، وهي جهاز عسكري في مدينة الرجمة. لقد هددني عون الفرجاني حينها.
وبحسب المغربي كان الاستجواب يتعلق بنشاطه والانتخابات المقبلة، ومراقبة المجتمع المدني لها. وأن هذه المضايقات والاعتقالات جاءت بسبب عمله في الإعداد لمراقبة الانتخابات الوطنية المقبلة. بما في ذلك مشاركته في 26 مايو 2021 في اجتماع لجنة مشتركة بين مفوضية المجتمع المدني والمفوضية الوطنية العليا للانتخابات،[22] وذلك ضمن عمل اللجنة الذي يهدف بالأساس إلى إعداد منظمات المجتمع المدني لمراقبة الانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر 2021. بالإضافة إلى ذلك، قاد المغربي، في 31 مايو 2021، مؤتمرًا في أجدابيا يهدف إلى بحث سبل تشجيع مشاركة المواطنين في هذه الانتخابات.
كان نفوذ المغربي الواضح وقاعدته الجماهيرية في المنطقة عاملاً مسببًا لاعتقاله. وبحسب تصريحاته للمركز؛ أنه خُير بين استخدام نفوذه للتأثير على القاعدة الجماهيرية لاتباع سلطة صدام حفتر وأبيه خليفة حفتر، أو التوقف عن ممارسة أي نشاط داخل ليبيا.
إذ قال المغربي عن هذه الأحداث التي تلت اعتقاله، والتي اعتبر أنها تنطوي على تهديد وترهيب من قائد كتيبة طارق بن زياد صدام حفتر:
بعد ثلاثة أيام من إطلاق سراحي، تم استدعائي من قبل قائد كتيبة طارق بن زياد، صدام حفتر.. وكان إما القاعدة الشعبية اللي أنا نشتغل عليها أو التي كونتها خلال عملي في الهلال الأحمر وفي المجتمع المدني، ننظمها تحت تعليمات الجهة المسيطرة (صدام حفتر وخليفة حفتر)، أو التخلي عن أي نشاط نمارس فيه. فبعد هذه المقابلة على طول أنا خرجت وجيت تونس.
تشريعات مكافحة الإرهاب يتم أيضا توظيفها لإسكات الأصوات المعارضة. فحسبما وثق مركز القاهرة واقعة المصور الصحفي والناشط إسماعيل بوزريبا الزوي،[23] أن محكمة عسكرية في بنغازي قضت في مايو 2020 بحبسه مدى الحياة، على خلفية تهمة دعم الإرهاب والجماعات الإرهابية، والتواصل مع منظمات إعلامية صنفتها القيادة العامة للجيش الوطني الليبي، المتمركز في شرق ليبيا، على أنها داعمة للإرهاب. وقد استندت هذه الاتهامات فقط لرسائل نصية عثر عليها على هاتف الزوي وتدوينات رأي تنتقد القيادة العامة للجيش الليبي في الشرق وعملية الكرامة.[24]
وكانت قوات الأمن الداخلي في أجدابيا قد ألقت القبض على الزوي في ديسمبر 2018. وقضى 20 شهرًا رهن الحبس السابق للمحاكمة في سجن عسكري بنغازي، تم حرمانه خلالهم من التواصل مع أسرته أو محاميه، ولم يحظى بتمثيل قانوني خلال الاجراءات القضائية، ولم يتم إبلاغه بموعد جلسة النطق بالحكم عليه، وصدر الحكم عليه غيابًيا في مايو 2020 بحبسه مدى الحياة. لكنه خرج في 12 سبتمبر 2021 بعد تلقيه عفوًا من السلطات العسكرية في شرق ليبيا.
تسلط هذه المحاكمة الضوء على انتهاكات إجرائية جسيمة تدفع نحو نتيجة محددة سلفًا، بما في ذلك محاكمته أمام محكمة عسكرية، على نحو يتعارض مع المعايير الدولية التي وافقت ليبيا على الالتزام بها، بموجب المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تقضي بحق جميع الأفراد في معاملة متساوية أمام القانون، وأن لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وعلنية، أمام محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة، منشأة بموجب القانون، في أي تهم جنائية أو مدنية موجهة ضده.
صعّد جهاز الأمن الداخلي في ليبيا من هجمته على حرية التعبير، لا سيما على الشباب الذين يعملون أو يتحدثون عن حقوق مجتمع الميم عين، أو عن الأقليات، أو عن الحقوق الدينية. إذ أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، في تقريره لمجلس الأمن الصادر في أبريل 2023، بشأن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، إلى عدد من حالات التهديد والترهيب بحق المدافعين عن حقوق الإنسان،[25] بما في ذلك مصادرة الحق في نقد الإجراءات أو القوانين التي وضعتها سلطات الدولة. وذلك استنادًا للقانون رقم 5 لعام 2022، المعروف باسم قانون الجرائم الإلكترونية، الذي أقره مجلس النواب في شرق البلاد.
يمنح هذا القانون صلاحيات واسعة للهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات، بما في ذلك؛ مراقبة ما ينشر ويعرض على شبكة المعلومات الدولية أو أي نظام تقني آخر، وحجب كل ما ينشر النعرات أو الأفكار التي من شأنها زعزعة أمن المجتمع واستقراره أو المساس بسلمه الاجتماعي.[26]
ووفقًا لتقرير الأمين العام، كثفت قوات الأمن الليبية والجماعات المسلحة حملات الترهيب والاعتقال التعسفي بحق أعضاء المجتمع المدني والجهات الفاعلة الإنسانية. كما واجهت المدافعات عن حقوق الإنسان مضايقات متزايدة، سواء بشكل مباشر أو عبر الإنترنت، وذلك بعد دخول قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية لعام 2022 حير النفاذ، في 17 فبراير 2023.
وبحسب التقرير أيضًا، ثمة إفادات قد وردت للأمين العام بشأن مضايقة وترهيب المدافعين عن حقوق الإنسان في شرق ليبيا، لا سيما أولئك الذين قدموا التماسات نيابة عن ذويهم المحتجزين تعسفيًا لدى جهاز الأمن الداخلي في بنغازي. ويضيف التقرير أن الفضاء المدني ومنظمات المجتمع المدني قد تأثرت وتراجعت قدرتها على العمل، بسبب حملة الترهيب المتواصلة للجهات الفاعلة في المجتمع المدني، والتي تمارس حقوقها المشروعة في التجمع السلمي وحرية التعبير وتكوين الجمعيات."
قضية حركة تنوير وقمع النشطاء
تعكس هذه القضية تورط أعضاء من جهاز الأمن الداخلي في جريمة الاحتجاز غير المبرر، لمدافعين عن حقوق الإنسان وأعضاء في المجتمع المدني، تحت ستار حماية "القيم الأصيلة في ليبيا وحماية الإسلام." إذ تم استهداف حركة تنوير بسبب اهتمامها بالقضايا التي تصنفها السلطات الليبية باعتبارها "تعادي الدولة والإسلام"، ولا سيما انخراط الحركة في حملات دفاعًا عن حقوق المرأة وحقوق مجتمع الميم عين في ليبيا. وقد عانى أعضاء تنوير من أشكال مختلفة من الانتهاكات وسوء المعاملة بما في ذلك التعذيب والإساءة اللفظية والتهديدات
بين نوفمبر 2021 ومارس 2022، احتجز جهاز الأمن الداخلي في طرابلس، دون سبب وجيه، 7 شباب تتراوح أعمارهم بين 19 و29 عامًا، وفي وقت لاحق، نشر جهاز الأمن العام مقاطع مصورة على موقع فيس بوك لأشخاص مرتبطين بحركة تنوير، يقرون فيها أنهم؛ "ملحدين" و"غير متدينين" و"علمانيين" و"نسويين" وإنهم يروجوا للإلحاد وازدراء المعتقدات الدينية عبر منصات التواصل الاجتماعي. وفيما يبدو على الأرجح أن هذه الاعترافات قد تم انتزاعها بالإكراه، تم إجبار هؤلاء الشباب على الاعتراف أيضًا بالتواصل مع منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية، والإشارة إلى أسماء ومواقع النشطاء الليبيين المقيمين في الخارج، والصحفيين والمدافعين الليبيين المقيمين داخل ليبيا الذين "يدعمون الإلحاد."
وبسبب هذه التهديدات الواضحة للمنظمة وأعضائها، تم حل الحركة اعتبارًا من 13 مارس 2022، وفر أعضاء مجلس إدارتها من البلاد.
وفي واقعة ذات صلة، أشار المدافع الليبي عن حقوق الإنسان (ف. ج) في مقابلة مع مركز القاهرة، إلى تعرضه وتعرض المنظمة التي ينتمي إليها، المسجلة قانونًا والمصرح بنشاطها، والتي تجمع أفرادًا من مختلف الأجناس والانتماءات الدينية إلى حملات تشهير وقمع مشابهة. وكان (ف.ج) قد شارك خلال فترة تأسيس منظمته في عدة مقابلات إعلامية، تطرق فيها لقضايا اجتماعية مختلفة، بما في ذلك حقوق المرأة في ليبيا، لكنه أضطر لمغادرة ليبيا عام 2022 بعدما تم استهدافه بحملة تشهير على وسائل التواصل الاجتماعي، عقب حملة القبض التي طالت عددًا من أعضاء المجتمع المدني، بما في ذلك أعضاء حركة تنوير.
فبحسب (ف.ج) أنه في 19 فبراير 2022، ألقت قوات الأمن الداخلي القبض على أحد أعضاء حركة تنوير، ونشر جهاز الأمن الداخلي مقطع مصور يعترف فيه هذا العضو بأن حركة تنوير تروج للخيانة الزوجية والإلحاد والنسوية. وقدأشارت منظمة هيومن رايتس ووتش أن هذه الاعترافات "انتزعت على ما يبدو تحت الإكراه".
ويتابع (ف.ج):
بعد نشر هذا الفيديو بأقل من شهر، تحديدًا في 15 مارس 2022، نشر جهاز الأمن الداخلي مقطع مصور أخر، لاستجواب ناشط أخر يدعى (ي.و) تم القبض عليه واستجوابه.
وبحسب (ف.ج) تعمد جهاز الأمن الداخلي مشاركة هذه المقاطع المصورة على نطاق واسع على موقع فيس بوك، كجزء من مخطط ترهيب واسع النطاق للنشطاء، مشيرًا إلى أنه ومنظمته قد ورد ذكرهما في أحد هذه المقاطع، ضمن المنظمات التي تعمل ضد الدولة. ولذلك قرر (ف.ج)، عقب انتشار الفيديو الثاني في مارس 2022، مغادرة البلاد.
وعن ذلك يقول (ف.ج) لمركز القاهرة:
في كل مقطع مصور، كانوا يسألونهم عما إذا كانوا يعرفوا أشخاص أو فتيان لهم علاقة بهذه الأشياء [الإلحاد والمثلية الجنسية] أو أي شخصيات مشهورة في المجتمع تعمل على هذه الأشياء. وقد ورد ذكر اسمي واسم منظمتي في أحد هذه الفيديوهات ضمن الشبكات السرية من المثليين والملحدين في ليبيا.
إن غياب المساءلة والتحقيق في مثل هذه الحالات من المضايقة والترهيب، يعني ضمنًا أن التزام منظمات المجتمع المدني بالبروتوكولات القانونية، وتقديم التقارير للسلطات المحلية في حالات الهجمات العنيفة، لا يضمن أي حماية.
وفي واقعة مشابهة، يشير مدافع أخر يعمل لدى مجموعة حقوقية في جنوب ليبيا إلى التهديدات المستمرة التي تواجهها منظمته من مجموعات مختلفة، بما في ذلك تعرض مقرها في جنوب ليبيا للهجوم في أوقات مختلفة؛ يناير 2022، ومارس 2022، ومارس2023. وبحسب هذا المدافع أنه؛ في هجوم مارس2023، تم استهداف المقر ليلاً، في محاولة إحراق متعمدة من قبل جناة مجهولين. ورغم أن مدير المكتب الإقليمي قدم وقتها بلاغ لمركز الشرطة الأقرب للمقر، إلا أن القضية أُغلقت دون تحديد هوية الجاني، بعدما لم يتلقوا أي تحديثات بشأن التحقيق في بلاغهم بشأن الهجوم المتكرر على المقر.
إن غياب المساءلة والتحقيق في مثل هذه الحالات من المضايقة والترهيب، يعني ضمنًا أن التزام منظمات المجتمع المدني بالبروتوكولات القانونية، وتقديم التقارير للسلطات المحلية في حالات الهجمات العنيفة، لا يضمن أي حماية. كما تساهم أساليب التهديد والترهيب في خلق بيئة من الخوف والصمت، ومن ثم، قمع المعارضة وتقويض نشاط المدافعين عن حقوق الإنسان. إذ تعكس مثل هذه الهجمات حجم التحديات والصعوبات التي يواجها أعضاء منظمات المجتمع المدني، المعنية بتحدي المعايير الراسخة والدفاع عن حقوق الإنسان في ليبيا.
وفي مقابلة أخرى مع المدافع عن حقوق الإنسان (ك.ج) استعرض بدوره الضغوط التي تعرض لها وعانت منها منظمته من قبل السلطات الليبية. إذ أُجبر على تقديم معلومات عن زملائه والأفلام والأنشطة الأخرى التي تنخرط فيها المنظمة المعنية بحقوق الإنسان، فضلاً عن تعرضه وزملائه (مصورين صحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان) من تحديات ومخاطر في ليبيا بعد الحرب. إذ تم اعتقال المدافع (ك.ج) والتحقيق معه أكثر من 7 مرات من قبل ميليشيات مختلفة، في مختلف المناطق والمدن الليبية، بين عامي 2013 و2022.
يعمل المدافع (ك. ج) على تنفيذ مشروعات، بالشراكة مع سفارة دولة أجنبية، تجمع بين فنانين ودبلوماسيين والعديد من السفراء والنشطاء والمثقفين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وبمجرد الإعلان عن هذه المشاريع، رفض جهاز الأمن الداخلي المبادرة، وأصر على حصولها أولاً على موافقة أمنية من جهاز الأمن الخارجي في حكومة الوحدة الوطنية. ورغم أن المبادرة لا تقع ضمن اختصاص جهاز الأمن الخارجي ولا جهاز الأمن الداخلي. ومع ذلك، تم تعليق تنفيذ المشروعات، وإقرار لوائح جديدة تٌلزم أي جهة تباشر تنفيذ الأنشطة الثقافية مع زوار أو دبلوماسيين أجانب بالحصول على موافقة وزارة الخارجية والتعاون الدولي.
ويقول (ك.ج) لمركز القاهرة؛
هذه اللوائح المرهقة والعقبات البيروقراطية تقوض قدرة المؤسسات الثقافية على العمل بحرية، فرغم أن المنظمة مسجلة قانونيًا في طرابلس بموجب اللائحة 286،[27] إلا أنه يتعين عليها الحصول على موافقة مسبقة من سلطات عدة قبل تنفيذ أي نشاط، بما في ذلك موافقة مفوضية المجتمع المدني، وجهاز المخابرات العامة، وجهاز الأمن الداخلي. هذه الشبكة المعقدة من الموافقات أدت لخنق العمل الفعال، والذي أضحى يتطلب أذونات حتى للعمليات الأساسية.
كبلت اللائحة 286 الصادرة في 2019 عمل الجمعيات المحلية، وفرضت قيود على حرية الأفراد في تكوين الجمعيات؛ إذ اعتمدت نظام الترخيص من جهة الإدارة بدلًا من نظام الإخطار، ضمن سلسلة أخرى من الإجراءات، التي تعتمد بشكل كامل على السلطة التقديرية للإدارة في منح التراخيص والحق في مزاولة العمل. كما تجبر المادة 38 من اللائحة الجمعيات على الحصول على إذن مسبق من المفوضية لفتح حساب بنكي، وتعطي للمفوضية حق تجميد حساب الجمعية في حال عدم التقيد بالإجراءات المطلوبة.
وفي هذا السياق يضيف (ك.ج):
في ديسمبر 2022 أخبرنا جهاز الأمن الداخلي أنه يجب علينا الذهاب لوزارة الخارجية، حيث استقبلنا الأمن الخارجي، واصطحبنا لمقر إدارة المراسم. وهناك، قالوا لنا أننا ممنوعين من العمل. [سألونا] كيف تتعاملون مع السفارات الدولية؟ كيف تحصلون على التمويل من المنظمات الدولية؟ وأن تواصلنا مع هذه المنظمات والسفارات مخالف للقانون، فبأي حق تتواصلون مع الدبلوماسيين والسفارات؟ من المفترض أن تتواصلوا معهم عبر وزارة الخارجية والأمن الخارجي. [أخبرونا] أنتم بالسفارات التي تريدون دعوتها، ونحن ندعم عملكم.
في أوائل يوليو 2023، تلقى المدافع (ك.ج) تحذيرات من معارفه، بأن اسمه قد تم تقديمه للأجهزة الأمنية للمراقبة تمهيدًا لاعتقاله بتهم تتعلق بتبني معتقدات وأفكار دينية تمثل "تهديدًا" للمجتمع. هذه الاتهامات تندرج عادة ضمن المادة 291 من قانون العقوبات الليبي، التي تجرم الارتداد عن الإسلام. وتفيد المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن هذا القانون على وجه الخصوص قد تم استخدامه بشكل تعسفي وغير عادل من قبل السلطات، مستغلة "الصياغة الغامضة والواسعة للجرائم المشار لها في أحكامه."[28] وقد أخذ المدافع (ك.ج) هذه التحذيرات على محمل الجد، وغادر ليبيا في يوليو 2023.
أيضًا في 17 فبراير 2023، وفي مثال أخر على توظيف الخطاب الديني والأخلاقي للزج بالنشطاء في السجون، أعلنت وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية في بنغازي، اعتقال واحتجاز المطربة الشعبية أحلام اليمني، والمدونة وصانعة المحتوى حنين العبدلي بتهمة "ارتكاب جرائم مخلة بالشرف والآداب العامة، ومخالفة قانون الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022." ولم يقدم بيان وزارة الداخلية أي تفاصيل حول وصفه للمحتوى المشار إليه بأنه "محتوى غير لائق، مسيء للمكانة الكريمة العفيفة للمرأة الليبية في مجتمعنا المحافظ، بأفعال وسلوكيات دخيلة تسيء لعاداتنا وتقاليدنا وديننا الحنيف." ولم تكن هناك معلومات إضافية حول المحتوى المجرم، أو إحالتهما للمحاكمة.
يتضمن الإطار التشريعي الليبي عدة مصطلحات غامضة وعقوبات مثيرة للقلق، يتم توظيفها لتقييد الحق في حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات، سواء للأفراد أو الجماعات. ففي قضية منظمة تنوير على سبيل المثال، أصدرت محكمة استئناف طرابلس حكمًا قانونيًا خطيرًا بشأن حرية التعبير وازدراء الأديان، مستندة للقانون رقم 20 لسنة 2016 بتعديل المادة 291 من قانون العقوبات الليبي، والمطبق بشكل أساسي في غرب ليبيا. وبموجب هذا القانون، قضت المحكمة بإدانة المتهمين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آراء اعتبرتها "مسيئة للإسلام"، وصنفت أفعالهم باعتبارها "ازدراء للدين وانحراف عن التعاليم الإسلامية." الأمر الذي نتج عنه أحكام متفاوتة بالحبس بحق المتهمين السبعة في القضية، تراوحت بين حبس سنة وعشر سنوات في سجن الردع بمطار معيتيقة بطرابلس.
مثال آخر على تطبيق القانون رقم 20 لسنة 2016، يعود لشهر سبتمبر 2022، إذ أصدرت محكمة استئناف مصراتة، الدائرة الجنائية الأولى، حكم بالإعدام بحق المواطن الليبي ضياء الدين أحمد مفتاح بلاعو، الذي أُدين بتهمة "الإصرار على ردته عن الدين الإسلامي" و"رفض التوبة والتخلي عن معتقداته." القضية التي بدأت أحداثها عام 2019، انتهت بتطبيق صارم لنص قانوني يقضي بعقوبة الإعدام في حالات الردة، ما لم يتخلى الأفراد عن معتقداتهم.
عقوبة الإعدام المرتبطة بالممارسة السلمية لحرية التعبير وتكوين الجمعيات
تجرم مواد قانون العقوبات الليبي رقم 206 و207 و208 انتقاد مؤسسات الدولة، وتصادر بشكل كبير الحق في حرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير، وقد تصل العقوبة على محالفتها حد الإعدام.
ففي 1975، تم اعتماد المواد 206 و207 و208 من قانون العقوبات كأداة لردع الصحفيين ونشطاء المجتمع المدني، ومنعهم من انتقاد سياسة الدولة والتواصل مع المنظمات الدولية. ويعد استمرار تطبيق هذه المواد اليوم، بمثابة استعادة للإطار التشريعي الذي استخدمه نظام القذافي للقضاء على الحريات الأساسية وإسكات المعارضة.
هذه المواد الثلاثة تتضمن عبارات فضفاضة وغير دقيقة، رغم خطورة وقسوة العقوبات المدرجة فيهم. وعلى ما يبدو، هذه المصطلحات الفضفاضة وما تضفيه من غموض لم يكن من سبيل الإهمال في صياغة النص التشريعي؛ وإنما يبدو عمديًا، بهدف تجريم حرية التعبير وتكوين الجمعيات إلى درجة تقوض مبدأ مشروعية الجرائم والعقوبات. في مخالفة واضحة لأحد أهم معايير سيادة القانون والمبادئ الدولية لحقوق الإنسان، والضمانة الأساسية ضد الممارسة التعسفية لسلطات الدولة.
هذه الصياغة الفضفاضة والغامضة في تعريف الأفعال الإجرامية ضمن مواد قانون العقوبات المشار إليها، تمّكن السلطات التنفيذية والقضاة من تصنيف العديد من أعمال النقد لمؤسسات الدولة أو توظيفها للخطاب الديني ودوفع حماية الدين والمجتمع، لتبرير القيود المفروضة على الحريات العامة.
يربط العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بين مبدأ الشرعية وبين مفهوم "التدخل التعسفي" بشكل وثيق.
تنص المادة 17 من العهد الدولي على أنه "لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته أو شئون أسرته أو بيته أو مراسلاته.
تنص المادة 206 من قانون العقوبات الليبي على عقوبة الإعدام لكل من ثبتت إدانته بالدعوة إلى إقامة أي تجمع أو تنظيم أو تشكيل محظور قانونًا، أو تأسيس أو تنظيم أو إدارة أو تمويل أو الانضمام إليه. وتطبق العقوبة نفسها على جميع الأشخاص الثابت إدانتهم بإعداد مكان لمثل هذه الاجتماعات أو تقديم أي مساعدة لها
تنص المادة 207 على عقوبة الإعدام لمن يروج لنظريات ومبادئ ترمي إلى تغيير المبادئ الأساسية للدستور أو النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية، أو تهدف إلى قلب نظم الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو هدم أي نظام من النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية، باستخدام العنف أو الإرهاب أو أي وسيلة أخرى غير مشروعة.
تنص المادة 208 على أنه يعاقب بالحبس كل من أنشأ أو نظم أو أدار في البلاد، دون ترخيص من الحكومة أو بترخيص صادر بناء على بيانات كاذبة أو ناقصة، جمعيات أو هيئات أو أنظمة ذات صفة دولية غير سياسية أو فرع لها.. وأن كل من انضم إلى الجمعيات أو الهيئات أو الأنظمة المذكورة، وكذلك كل ليبي مقيم في البلاد ينضم أو يشارك بأي شكل من الأشكال دون ترخيص من الحكومة في أي من الأنظمة المذكورة ويكون مقرها الرئيسي في الخارج، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن 3 أشهر، وغرامة لا تزيد على مائتي دينار.
استمرار تطبيق القانون رقم 19 لسنة 2001 والمراسيم التنفيذية (1، 2، 186) المقوضة للحق في حرية تكوين الجمعيات
في عهد القذافي، أصدر مؤتمر الشعب العام القانون رقم 19 بشأن حرية تكوين الجمعيات. والذي صدرت لوائحه التنفيذية (المرسوم 186، والمرسومان 1 و2) عام 2001. ينتهك القانون حق تكوين الجمعيات المكفول في المادة 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إذ يقوض بشده هذا الحق، على النحو المشار له في التعليق القانوني الصادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان حول هذا القانون،[29] ورسالة المقرر الأممي الخاص المعني بحرية تكوين الجمعيات والتجمع السلمي المنشورة في 6 أكتوبر2023. [30]
لا يعترف القانون رقم 19 لسنة 2001 بوجود منظمات معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان؛ إذ يعترف فقط بالمجموعات التي تقدم خدمات اجتماعية أو ثقافية أو رياضية أو خيرية أو إنسانية، ويعتبرها دون غيرها منظمات مجتمع مدني شرعية.
هذه المنظمات تخضع بدورها لرقابة كاملة وصارمة من قبل السلطات التنفيذية، التي تتمتع بصلاحيات واسعة في رفض تسجيل منظمات المجتمع المدني، ووقف أو تعليق عملها، وإعادة تشكيل مجالس إدارتها، دون أي سند أو رقابة قضائية.
ووفقًا لهذا القانون، يشترط تأسيس منظمات المجتمع المدني الحصول على موافقة السلطة التنفيذية على التأسيس وعلى أنشطة المنظمة ونظامها الأساسي ولوائحها الداخلية وأعضائها. يجوز للسلطة التنفيذية تعليق عمل المنظمة، أو إغلاقها، أو حلها، أو دمجها مع أخرى؛ أو تكليف لجنة إدارة مؤقتة لإدارتها، دون إذن قضائي. وفي جميع العمليات الأساسية للمنظمة، بما في ذلك؛ الحصول على التمويل، أو المشاركة في نشاط معين، أو عقد اجتماع، تخضع المنظمة لإشراف وحضور وموافقة مؤتمر الشعب العام (الهيئة التشريعية في عهد القذافي).
كما استخدم نظام القذافي القانون رقم 80 لسنة 1975، الذي عدل وألغى أحكام قانون العقوبات، في مزيد من قمع حرية تكوين الجمعيات، معتمدًا على صياغته الغامضة لأنواع السلوك التي يعاقب عليها القانون، والتي تصل عقوبة بعضها حد الإعدام.
تعاقب المادة 206. بالإعدام على الأفعال التي تسعى إلى "تغيير القواعد الأساسية للبنية الاجتماعية بوسائل غير قانونية
وذلك دون أي تحديد دقيق لتعريف هذه القواعد الأساسية، أو شرح للوسائل غير القانونية المشار لها. ومن ثم، فنص المادة عرضة للتفسير والتأويل على نطاق واسع، بسبب افتقاره للتحديد أو التعريف.
وبشكل عام يخالف القانون رقم 80 الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها ليبيا، خاصة المواد 6، 7، 15، 18، 19، 21، 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وبعد سقوط نظام القذافي، أضافت السلطات المؤقتة لهذه القوانين مجموعة من القرارات واللوائح الخانقة للعمل المدني، مثل القرارين رقم 1 و2 لسنة 2016 الصادرين عن رئيس حكومة الشرق عبد الله الثني، والقرار رقم 286 لسنة 2019 الصادر ر عن المجلس الرئاسي في طرابلس برئاسة فائز السراج. والقرار رقم (5) لسنة 2023 لمفوضية المجتمع المدني التابعة للمجلس الرئاسي بطرابلس برئاسة محمد المنفي.
هذه القرارات واللوائح، المبنية على القانون رقم 19 لسنة 2001، قيدت عمل المنظمات المحلية والدولية، وصادرت حرية الأفراد في تكوين الجمعيات، لا سيما لأنها اعتمدت في التأسيس نظام الترخيص بدلاً من نظام الإخطار، والذي يتطلب الحصول على موافقة السلطات الإدارية (مفوضية المجتمع المدني). كما ألزمت المنظمات عند التسجيل بالتوقيع على تعهد بعدم التواصل مع أي سفارة أو جهة دولية دون الحصول على إذن مسبق من السلطات التنفيذية. هذا بالإضافة لما تمنحه هذه اللوائح والقرارات من صلاحيات واسعة للسلطة الإدارية (التي تقودها السلطة التنفيذية)، بما في ذلك الحق في مداهمة وتخريب مقار المنظمات، وتعليق أنشطتها مؤقتا، أو حلها وتجميد حساباتها المصرفية، دون حكم قضائي. كما تلزم هذه القرارات المنظمات بالحصول على موافقة مفوضية المجتمع المدني قبل تلقي أي تمويل لمشاريعها، أو لتنفيذ أي من أنشطتها.
هذه اللوائح التنفيذية المقيدة تفتح الباب للتجاوزات الفادحة من قبل المفوضية، وتدخلها في عمل منظمات المجتمع المدني، إلى حد يهدد ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان بالخطر في حالة تواصلهم مع منظمات المجتمع المدني، إذ يحق لمفوضية المجتمع المدني بموجب هذه اللوائح والقوانين، وباعتبارها السلطة الإدارية، أن تجبر أي منظمة على الكشف عن أسماء ضحايا الانتهاكات، في انتهاك للخصوصية يعرضهم لخطر كبير.
قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية
في سبتمبر 2022 أقر مجلس النواب الليبي في الشرق قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، والذي دخل حيز التنفيذ في فبراير 2023، متضمنًا مصطلحات فضفاضة وغير دقيقة، تمنح هيئة غير منتخبة (تسمى الهيئة الوطنية لأمن وسلامة المعلومات)، صلاحيات واسعة وسلطة تقديرية كبيرة تقوض حرية التعبير على الإنترنت.
تنص المادة 4 من هذا القانون على أن استخدام الإنترنت والوسائل التكنولوجية الحديثة يعتبر "مشروعًا" بشرط "احترام النظام العام والآداب العامة"
ومن ثم، فأي ممارسة تخالف هذه المفاهيم القابلة للتأويل، تمثل ممارسة غير قانونية تستوجب العقوبة.
هذه الصياغة الأولية المبهمة تعكس حجم عيوب هذا القانون، الذي يمثل تهديدًا خطيرًا للعديد من حقوق الإنسان المكفولة دستوريًا، بما في ذلك الحق في حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر.
تشريعات مكافحة الإرهاب
يفرض القانون رقم 3 لسنة 2014 بشأن الإرهاب قيودًا صارمة على حرية التعبير، بما في ذلك الرقابة الصارمة على الإنترنت. ويعرض هذا القانون المعارضة السياسية السلمية والأصوات المستقلة، مثل المدافعين عن حقوق الإنسان، لخطر السجن لفترات طويلة لمجرد ممارستهم حقهم في حرية التعبير. كما يسمح هذا القانون بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، والتي غالبًا ما تفتقر للمعايير الدولية للمحاكمة العادلة.
يتوسع القانون رقم 3 لسنة 2014 بشكل ملحوظ في تعريفه للأفعال الإرهابية، والتي تتضمن حتى الأفعال التي تضر بالبيئة، فضلاً عن اعتبار أي حظر أو عرقلة لمهام السلطات العامة أو الإدارات الحكومية أو الوحدات البلدية فعلاً إرهابيًا تنطبق عليه العقوبة.
تحدد المادة 15 من القانون عقوبة "كل من قام بالدعاية أو الترويج أو التضليل للقيام بالعمل الإرهابي سواء بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة من وسائل البث أو النشر أو بواسطة الرسائل أو المواقع الإلكترونية"، بالحبس من خمس إلى عشر سنوات.
وعلاوة على ذلك، أصدر المجلس الرئاسي في 7 مايو 2018، القرار رقم 555 لسنة 2018، الخاص بتشكيل وحدة مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، والمعروفة باسم (قوة الردع الخاصة). وقد مُنحت هذه القوة شبه العسكرية، التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، سلطة واسعة بموجب المادة 4 من هذا القرار، للرقابة والتتبع لأي معلومات تعتبر تهديدًا للسلامة أو الأمن الوطني أو الاجتماعي. ورغم إلغاء محكمة البيضاء لهذا القرار في 15 أبريل 2019، أعقاب اتهامات خطيرة لقوة الردع بانتهاكات لحقوق الإنسان، إلا أن الوحدة تواصل عملها، وتسيطر على أحد أكبر وأهم السجون في طرابلس.
أن مواصلة هذه الوحدة لعملها، يعكس حجم الخلل العميق في النهج الذي تتبعه ليبيا في مكافحة الإرهاب وإدارة الجريمة المنظمة، والذي ينتهك باستمرار الحريات المدنية ويتجاهل معايير حقوق الإنسان الأساسية.
ليبيا بين عامي 2020 و 2024: انتهاكات ممنهجة تحت ذريعة حماية الأمن القومي وحماية الأخلاق.
تقدم هذه الورقة البحثية صورة قاتمة حول أوضاع الفضاء المدني في ليبيا بين عامي 2020 و2024، مسلطةً الضوء على كمية الانتهاكات الممنهجة التي ترتكب تحت ذريعة حماية الأمن القومي وحماية الأخلاق، والجهود المتضافرة التي تبذلها السلطات الليبية، في الشرق والغرب على حد سواء، لخنق المشاركة المدنية وقمع المعارضة، من خلال الاعتقالات التعسفية، والأطر القانونية القمعية، والتلاعب بالخطاب الديني والأمني. هذه الممارسات لا تنتهك فقط القوانين الليبية، وإنما تتعدى بدورها على المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة تلك المفصلة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وليبيا طرف فيه.
كما تسلط الورقة الضوء على توظيف القوانين القمعية من أجل قمع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، ونشر الخطاب الديني والأمني الذي يشيطن المعارضة ويبرر قمعها. إذ تكشف الأمثلة الواردة في الورقة حجم توظيف أجهزة الدولة للقوانين في القمع؛ بما في قانون الجرائم الإلكترونية رقم 5 لسنة 2022، والمواد 206 و291 و207 من قانون العقوبات، والقانون رقم 19 لسنة 2001 لتجريم حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات، على نحو مثير للقلق.
كما تعكس حالات الوفاة في أماكن الاحتجاز المشار إليها في الورقة (لا سيما وفاة سراج فخر الدين دغمان)، ومنهج جهاز الأمن الداخلي في نزع اعترافات المواطنين والأجانب، وتسجيلها ونشرها، وخاصة في الجرائم ذات الصلة بالادعاءات الأخلاقية والدينية حجم المخاطر الجسيمة التي يواجها أولئك الذين يتحدون الأعراف التي أقرتها الدولة أو ينحرفون عنها.
هذا القمع المنهجي في ليبيا، قد تم تعزيزه عبر مجموعة من الآليات القانونية والسياسية والاجتماعية، التي تقوض بشكل جماعي سيادة القانون وتعرض المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والمواطنين العاديين لانتهاكات بشعة.
إلا أن هذه الانتهاكات الخطيرة والمقلقة التي استعرضتها هذه الورقة لا تعكس في حجم تآكل الحريات الأساسية في ليبيا، وإنما فشل آليات الدولة في حماية حقوق الإنسان ودعمها بما يتوافق مع التزامات ليبيا بموجب الاتفاقيات الدولية.