(ورقة موقف)
خلال الأشهر الأولى من العام المقبل 2024؛ من المقرر أن تشهد مصر انتخاباتها الرئاسية الثالثة، منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم فعليًا في يوليو/تموز 2013. هذه الانتخابات من المستحيل أن تتسم بالحرية والنزاهة في ظل ترسانة التشريعات القمعية، والبناء المؤسسي الذي يجمع كل موارد الدولة وهيئاتها في قبضة الرئيس، ورفض السلطات الممتد لأكثر من 10 سنوات لجميع أشكال المعارضة والانتقاد.
وحتى الحوار الوطني، الذي ينطلق بعد مرور أكثر من عام على إعلانه، لن ينعكس إيجابًا على الانتخابات المقبلة. إذ أن الأطر القانونية والسياسية القائمة تصادر الحريات السياسية، ولا تلبي المعايير الدنيا لضمان الإشراف المحايد على الانتخابات. هذا بالإضافة لما أسفرت عنه التعديلات الدستورية في 2019 من مصادرة تامة للاشتراطات الأساسية لعقد انتخابات رئاسية حرة ونزيهة، بما في ذلك تآكل مبدأ الفصل بين السلطات، ومصادرة استقلال المؤسسات وخاصة القضائية، فضلًا عن تقنين تدخل المؤسسة العسكرية في العملية السياسية.
في الانتخابات الرئاسية 2018، نجح تدخل المؤسسة العسكرية في العملية الانتخابية في إزاحة اثنين من المرشحين المنافسين للرئيس السيسي، والزج بهما في السجن بموجب محاكمات عسكرية جائرة. بينما وضعت السلطات المصرية مرشح أخر قيد الإقامة الجبرية حتى يتراجع عن ترشحه. وتسببت ممارستها القمعية في انسحاب مرشحين آخرين خشية على سلامة أعضاء حملاتهما الانتخابية واعتراضًا على مخالفات انتخابية جسيمة. كما استهدفت السلطات المصرية معارضي الانتخابات المطالبين بمقاطعتها؛ تارة بالحبس وأخرى بالاستدعاء والتحقيق في جرائم تصل عقوبتها حد الإعدام. وفي النهاية، خرجت الانتخابات الرئاسية وكأنها مسرحية، تُعيد مشهد انتخاب السيسي بأغلبية كبيرة متوقعة، 97%، لفترة رئاسية جديدة، تمتد لأربعة أعوام أخرى، كان يجب أن تنتهي في 2022.
منذ الانقلاب العسكري في 2013، ألقت السلطات المصرية بعشرات الآلاف من المصريين في السجون؛ بناءً على اتهامات سياسية تستند للكثير من التشريعات القمعية. هؤلاء بينهم معارضين سياسيين، وحقوقيين، وصحفيين، وأكاديميين، بل وحتى مواطنين غير معنيين بالسياسية. وبالتزامن؛ شددت الأجهزة الأمنية الخناق على المجال العام، وفرضت حظرًا فعليًا على التظاهر السلمي والمساحات العامة، وباشرت هجماتها المتكررة على منظمات المجتمع المدني، وسعت للسيطرة على أغلب المنصات الإعلامية. كما أحكمت السلطات قبضتها على تدفق المعلومات، سواء عبر منابر الإعلام التقليدي أو الإلكتروني أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي واحتكرتها لتشكيل الخطاب العام. بينما عاقبت الأصوات المغايرة في مناخ عام قمعي، من شأنه أن يقوض أي عملية انتخابية في مصر.
تقنين السلطوية
بموجب القانون رقم 198 لعام 2017؛ تتولى الهيئة الوطنية للانتخابات الإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية والاستفتاءات في مصر. هذه الهيئة تتشكل من 10 قضاة من خمس هيئات قضائية، يرشحهم المجلس الأعلى للقضاء والهيئات التي يتبعونها، ويصدر قرار تعيينهم من رئيس الجمهورية. إذ أن القانون أعطى رئيس الجمهورية سلطة تعيين المشرفين على كل أنواع الانتخابات، بما في ذلك الانتخابات التي سيترشح فيها. لتصبح هذه الهيئة «مستقلة» اسمًا فقط، ومفتقرة للحياد. بعدما كانت الانتخابات الرئاسية من قبل تُنظم بموجب قانون 22 لعام 2014. والذي ينص على تشكيل اللجنة المشرفة على الانتخابات من رئيس المحكمة الدستورية، ورئيس محكمة النقض بالقاهرة، وأقدم نواب رؤساء المحكمة الدستورية ومحكمة النقض ومجلس الدولة.
أثناء الانتخابات الرئاسية 2018، دفعت مخالفات هذه الهيئة، فضلًا عن مناخ القمع، بعض المرشحين الرئاسيين للانسحاب انطلاقًا من فكرة «غياب الفرص المتساوية بين المرشحين»، ناهيك عن أن مرشحين آخرين تم حبسهم أو تحديد إقامتهم أو تهديد وملاحقة أعضاء حملاتهم الانتخابية.
تدحض سيطرة الرئيس على المؤسسة القضائية مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، ومن ثم تعرقل نزاهة أية عملية انتخابية. فبينما احتفظ القضاء بهامش ضئيل من الاستقلالية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، إلا أن استقلاليته تآكلت تمامًا بعد 2013. فبحسب تحقيق لرويترز أنه بين 2013 و2016، أُجبر 59 قاضيًا على التقاعد بقرار لجان تأديبية. الأمر الذي اعتبره البعض رسالة تحذير للقضاة بضرورة اتباع تعليمات الحكومة. وفي 2017 مرر البرلمان القانون رقم 13 لعام 2017 لتنظيم عمل القضاء، رغم اعتراض العديد من القضاة. هذا القانون ألغى عملية تعيين رؤساء الهيئات القضائية التقليدية القائمة على الأقدمية (سنوات الخدمة)، مانحًا رئيس الجمهورية حق اختيار رؤساء الهيئات القضائية من بين مجموعة من كبار أعضائها، على نحو يمنحه سيطرة غير دستورية على هذه الهيئات.
أما تعديلات 2019 الدستورية؛ التي استهدفت ترسيخ قوة الرئيس وتمديد حكمه، فكانت الضربة الأخيرة التي قوضت استقلال القضاء تمامًا، بعد إضفاء الطابع الدستوري على قانون تنظيم القضاء (13/2017). إذ منحت تعديلات المواد 185 و193 من الدستور لرئيس الجمهورية حق تعيين رؤساء الهيئات القضائية، والتحكم في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء وبالتالي وهيئة تنظيم الانتخابات. وامتد الأمر لما هو أكثر عصفًا بنزاهة وحرية أي انتخابات رئاسية مرتقبة، بتعديل المادة 140 والمادة 241 من دستور 2014، المتعلقتين بفترات الرئاسة (رغم أن المادة 226 من الدستور حظرت صراحة تعديل المواد الدستورية المتعلقة بإعادة انتخاب الرئيس ومواد الحريات والمساواة، ما لم تكن التعديلات تسعى لتقديم ضمانات إضافية للحقوق والحريات).
كانت المادة 140 تقضي بأن لرئيس الجمهورية أن يتولى مقاليد الحكم لأربع سنوات فقط، ويعاد انتخابه لفترة رئاسية ثانية فقط. ولكن تم تعديلها وتمديد مدة الفترة الرئاسية من أربع لـ ست سنوات. كما تم تكييف المادة 241 من التعديلات لصالح الرئيس الحالي، بما يقضي بتطبيق التعديل بأثر رجعي، ومد فترة رئاسته الحالية (الثانية) عامين لتنتهي في 2024 بدلًا من2022، والسماح له بالترشح لفترة رئاسية ثالثة، يفترض أن تكون الأخيرة، تبدأ في 2024. أي أن فكرة عقد الانتخابات الرئاسية في 2024 بدلًا من عام 2022 في حد ذاتها، شاهدًا إضافيًا على عبثية هذه الانتخابات.
المادة 200 من التعديلات الدستورية أيضًا منحت للقوات المسلحة الضوء الأخضر للتدخل مباشرة في الشئون السياسية بدعوى «صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد». هذا التعديل مبهم المعنى، أعطى الجيش غطاءً قانونيًا للتدخل في العمليات الانتخابية بما في ذلك الانتخابات الرئاسية.
أما القانون رقم 167 لعام 2020 فأقر ضرورة موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، على ترشح الضباط العسكريين المتقاعدين للرئاسة أو البرلمان أو في الانتخابات المحلية. وهو تقييد لم يكن متبعًا فيما سبق إلا على الضباط الذين ما زالوا قيد الخدمة العسكرية. كما أعطى القانون للقوات المسلحة حق «إبداء الرأي» في طلب التعديلات الدستورية والقوانين الخاصة بممارسة الحقوق السياسية والانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية. وفي عام 2022 تم تعميق تقنين تدخل القوات المسلحة في السياسة بتعيين اللواء صلاح الرويني رئيس القضاء العسكري بقرار رئاسي في منصب النائب الأول للمحكمة الدستورية العليا. وبموجب السلطات الممنوحة للرئيس بعد التعديلات الدستورية، يتوقع البعض أن يخلف اللواء الرويني رئيس المحكمة الحالي في منصبه بعدما يبلغ رئيس المحكمة سن التقاعد عام 2027.
عزز المناخ السلطوي منذ 2013 من فرصة الانقلاب الدستوري في 2019، وما سبقه من تعديات تشريعية. فبعد 6 أشهر فقط من انتخاب السيسي رئيسًا، بدأت الأجهزة الأمنية والرئاسة سلسلة اجتماعات أسفرت عن انتخاب برلمان خاضع تمامًا لسيطرتهما. ولعل تمرير هذا البرلمان للتعديلات الدستورية في 2019 بموافقة 531 عضوًا ومعارضة 22 فقط، يعكس حجم سيطرة الرئيس عليه. بالإضافة لما تعرض له النواب الذين أعربوا عن معارضة التعديلات من هجوم وحملات تشهير من الإعلام المناصر للدولة والأجهزة الأمنية، لدرجة أن غادر أحدهم مصر خوفًا من الملاحقة.
لم تكن تعديلات 2019 إلا أحد آخر أدوار برلمان 2015 في خطة تقنين الوضع السلطوي القائم، قبل انتخاب برلمان جديد. وافق برلمان 2015 في يناير/كانون الثاني 2016 بشكل جماعي على 341 قرارًا رئاسيًا كانوا قد صدروا بين منتصف 2013 و2015، وتحويلهم لتشريعات. هذه القرارات كانت النواة الأولى لأشد التشريعات الحالية قمعًا، والمستخدمة لإسكات المعارضة وملاحقة منتقدي الرئيس.
أحد أولى هذه القرارات، كان القرار الرئاسي بقانون رقم 107 لعام 2013 لتنظيم المظاهرات. القانون الذي منح قوات ومسئولي الأمن الحق في منع أي مظاهرة وفق تقديرهم، وشرعن للفض العنيف للمظاهرات، ونص على عقوبات مشددة بحق المتظاهرين. كما أعطى القانون وزارة الداخلية حق منع التجمعات العامة لأكثر من 10 أشخاص بما قد يشمل اجتماعات لحملات انتخابية أو استفتاءات. وذلك على نحو يتشابه لما يقره أيضًا القانون رقم 10 لعام 1914 الخاص بالتجمهر، والذي نص على أنه إذا وقعت جريمة بقصد تحقيق هدف التجمهر، فجميع من حضروا التجمهر وقت ارتكاب الجريمة يتحملون المسئولية الجنائية عنها بصفتهم متواطئين فيها. ورغم إلغاء قانون التجمهر سنة 1928، يستمر العمل به على نحو غير قانوني؛ بحجة عدم نشر قرار الإلغاء في الجريدة الرسمية وقتها، وحتى الآن.
وعلى مدى السنوات الماضية، كان القانون رقم 107 لعام 2013 (قانون التظاهر) ومعه القانون رقم 10 لعام 1914 (قانون التجمهر) من الأدوات التشريعية المهمة لردع ومعاقبة أي حراك سلمي. ثم صدر قانون مكافحة الإرهاب (القانون رقم 94 لعام 2015) وقانون الكيانات الإرهابية (القانون رقم 8 لعام 2015) بقرار من رئيس الجمهورية رغم معارضة قوية من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني ونقابة الصحفيين، وانطويا بدورهما على صياغات مبهمة، ومنحا المؤسسات الأمنية سلطات قمعية أوسع، لتصبح هذه القوانين القمعية حجر الزاوية للنظام السلطوي في مصر حاليًا، وأداة إبقاء عشرات الآلاف من المعارضين والمواطنين غير المسيسين وراء القضبان، فضلًا عن تقويض العمليات الانتخابية.
قمع وتأميم السياسة
أدت هذه التشريعات القمعية إلى تآكل فرص حياة سياسية سليمة، وعصفت بإمكانية عقد انتخابات حرة ونزيهة. إذ تضاءلت قدرة المعارضة السياسية والأطراف المؤيدة للديمقراطية على التنظيم، وتوالى استهداف قياداتها وأعضائها. فتم القبض على عبد المنعم أبو الفتوح القيادي المعارض ورئيس حزب مصر القوية، ونائبه محمد القصاص في 2018، ضمن حملة اعتقالات واسعة تزامنت مع الانتخابات الرئاسية. واجه أبو الفتوح والقصاص اتهامات إرهابية لا أساس لها، في رسالة تهديد قوية للمعارضة السياسية وقتها؛ خاصةً أن أبو الفتوح قيادي حزبي معروف دوليًا ينتمي لحزب سياسي مشروع، لكنه اليوم وبعد أربع سنوات من الحبس الاحتياطي والإدراج على قوائم الإرهاب، رهن الاحتجاز تنفيذًا لحكم محكمة طوارئ في مايو/أيار 2022 بالسجن 15 عامًا. وبالمثل قضت المحكمة نفسها بحبس القصاص 10 أعوام.
واجهت السلطات المصرية بالقمع كل محاولات المعارضة السياسية وقف الانقلاب الدستوري في 2019. ففي يناير/كانون الثاني 2019 ألقت القبض على يحيى حسين عبد الهادي، القيادي في الحركة المدنية الديمقراطية (وهي حركة تضم بعض أحزاب اليسار والأحزاب الليبرالية) بسبب دوره في حملة مجابهة التعديلات. وذلك ضمن حملة اعتقالات شملت عشرات آخرين، جاءت بعد ساعات من دعوة الحركة علنًا للإفراج عن خمسة من نشطائها، كان قد تم القبض عليهم قبل أسبوع. وللسبب نفسه، تم القبض على الدكتور محمد محيي الدين، مع أربعة من حزب الدستور، بتهم تتعلق بالإرهاب.
بعد تمرير التعديلات الدستورية، بدأت المعارضة السياسية تنظيم نفسها داخليًا لتشكل قائمة ترشح للانتخابات البرلمانية 2020. وكان زياد العليمي؛ البرلماني السابق وأحد مؤسسي الحزب المصري الاجتماعي الديمقراطي، وحسام مؤنس أحد مؤسسي حزب التيار الشعبي اليساري، وآخرين من قيادات المعارضة قد اجتمعوا لتشكيل هذه القائمة الموحدة، تحت مسمى تحالف الأمل. ولكن تم القبض على العليمي ومؤنس وآخرين من رجال الأعمال والنقابيين والصحفيين (منهم رامي شعث وحسن بربري وعمر شنيطي وهشام فؤاد) في أواخر يونيو/حزيران 2019، ووجهت لهم اتهامات تتعلق بالإرهاب في القضية رقم 930 لعام 2019. وفيما بعد تم إدراج 13 شخصًا منهم على قوائم الكيانات الإرهابية. وبحلول 24 يوليو/تموز 2019 كان 83 شخصًا على الأقل قد تم القبض عليهم في جميع أنحاء البلاد.
قضى متهمو قضية تحالف الأمل أقصى فترة قانونية للحبس على ذمة المحاكمة (عامين)، ثم عرف 6 منهم – بينهم العليمي ومؤنس– أنه تم ضمهم لقضية جديدة، تنطوي على جمل وفقرات مماثلة لتلك الواردة في أوراق القضية الأولى بحسب المحامين. وهكذا تمكنت السلطات المصرية من الاحتفاظ بالعليمي ومؤنس وراء القضبان لعامين آخرين، قابلة للتجديد مرة أخرى إذا قررت ضمهم لقضية ثالثة بعد نفاد المدة القانونية للحبس الاحتياطي في القضية الثانية، في توجه عام ومتكرر عُرف بممارسة «تدوير المحتجزين» وبين يناير/كانون الثاني 2018 وديسمبر/كانون الأول 2021 أعيد تدوير 1764 شخصًا على الأقلوإعادة اتهامهم في قضايا جديدة.
صادرت قضية تحالف الأمل قدرة المعارضة السياسية على التنظيم للانتخابات البرلمانية 2020. فاعتقال قيادات الأحزاب وأعضائها– بمن فهم المعروفين بمعارضتهم الشديدة للإخوان المسلمين – قوضت من قدرات الأحزاب التنظيمية، وحملت رسالة واضحة حول التكلفة الباهظة لتحدي السلطات ومعارضتها، حتى ولو عن طريق الانتخابات. فكان من المنطقي أن تأتي انتخابات 2020 ببرلمان موالي جديد.
واكتملت دائرة القمع بسياسة عدم التسامح مع أي احتجاجات شعبية في الشوارع، بالاعتماد على التشريعات القمعية نفسها. وعندما خرجت مظاهرات سبتمبر/أيلول 2019 ردًا على فضائح الفساد المحيطة بالسيسي؛ اقتلعها القمع العنيف والحاسم، فيما عرف بأحداث 20 سبتمبر/أيلول. وفي ظرف أسبوعين لا أكثر، اعتقلت السلطات المصرية 4400 شخصًا، ألقي القبض عليهم من منازلهم أو من الشوارع والمساحات العامة وأحيانًا بطريقة عشوائية. كما لجأت قوات الأمن لتوقيف الناس في الشوارع وتفتيش هواتفهم والقبض عليهم إذا تبين أنهم أبدوا إعجاب أو مشاركة لتدوينات سياسية. وتكررت حملة الاعتقالات الجماعية هذه في عدة مناسبات أخرى، منها سبتمبر/أيلول 2021، ونوفمبر/تشرين الثاني 2022، وتم الزج بالآلاف خلف القضبان. وعلى مدار عام 2022 جددت محاكم الإرهاب الحبس الاحتياطي لنحو 25 ألف شخصًا. وفي كل هذه الوقائع؛ كانت تشريعات مكافحة الإرهاب الأداة الأهم في إحكام القمع.
هذه المنهجية الموسعة لتوظيف التشريعات القمعية في حبس عشرات الآلاف احتياطيًا، وتدويرهم في قضايا جديدة أو الحكم عليهم في محاكمات غير عادلة، تعكس حجم تواطؤ النيابة والقضاء في قمع النشاط السياسي. ومع التسليم بشجاعة الكثيرين من نشطاء المعارضة ومواصلتهم النضال، إلا أن هذا لا ينفي قسوة واقع المحتجزين في السجون، الذي جعل النشاط السياسي مسألة خطيرة للغاية. يقول أحد أقارب محتجز سياسي بعد الإفراج عنه: «تبنا إلى الله. لن نتورط في السياسة مرة أخرى». هذا الواقع غير مواتٍ إطلاقا لفكرة الانتخابات الحرة.
مساعي المعارضة في مواجهة الحكومة أو لطرح سياسات بديلة لم تتعطل فقط بسبب الاستهداف القمعي المباشر لقياداتها وعناصرها، إنما لجأت السلطات المصرية لاستراتيجيات أخرى غير مباشرة، مثل الاختراق الأمني للأحزاب القائمة، وتعطيل أنشطتها، أو عرقلة تأسيس الجديد منها.
في 2011، أسس رجل الأعمال نجيب ساويرس حزب المصريين الأحرار (الذي أعتبره البعض أحد أهم الأحزاب مجابهة للإخوان المسلمين)، مفتخرًا بانضمام 100 ألف شخصًا لعضويته. ورغم أن الحزب دعم انقلاب 2013 وترشح السيسي للانتخابات الرئاسية 2014، لكنه حاول الحفاظ على بعض استقلاليته ولم يقبل بمستوى التأييد المُطلق الذي سعت له السلطات. فكانت النتيجة أنه بنهاية 2016، حفّز الاختراق الأمني للحزب عملية خلع قيادته، فيما وصفه ساويرس بـتأميم الحزب، وجاءت قيادة جديدة أكثر انصياعًا للسلطات. وفي برلمان 2020، لم يعد للحزب، الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في برلمان 2015، مقعد واحد.
تخريب الأحزاب من الداخل لم يكن استراتيجية جديدة. ففي عهد مبارك تعرض حزب الوفد وحزب الغد لمصير مشابه. ولكن الجديد في مسألة حزب المصريين الأحرار أنه لم يكن حزبًا معارضًا بالمعنى التقليدي، ولكن هامش الاستقلالية الضئيل الذي سعي إليه، لم يكن مقبولًا لدى السلطات المصرية.
أما الأحزاب الأخرى، لا سيما تلك التي تفتقر إلى الموارد المالية الكبيرة التي كانت لدى حزب المصريين الأحرار، فواجهت عقبات أخرى؛ من بينها تلك التي فرضها القانون المنظم للأحزاب السياسية (74 لعام 1977) وتعديلاته من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 2011. إذ منح القانون اللجنة القضائية المكلفة بمنح التراخيص للأحزاب، سلطة رفض الطلبات بتشكيل الأحزاب بناء على معايير مبهمة تخص المساس «بالأمن الوطني» و«الوحدة الوطنية» أو «السلم الاجتماعي». واشترط توقيع 5000 عضو مؤسس كحد أدنى من 10 محافظات على الأقل، بواقع 300 عضو من كل محافظة على الأقل؛ كشروط لتأسيس الأحزاب. هذه المعوقات حالت دون تأسيس أحزاب جديدة، مثل حزب العيش والحرية (تحت التأسيس) الذي لم يتمكن من تلبية المعايير، لا سيما في ظل الحظر غير المعلن على النشاط السياسي.
كما لجأت الأجهزة الأمنية إلى منع أحزاب المعارضة بشكل دائم ومتكرر من تنظيم المؤتمرات أو اللقاءات العامة. وتوالت اعتذارات الجهات والأماكن المستضيفة لهذه الاجتماعات مكتفية بإخطار المنظمين أن الإلغاء جاء بـأوامر أمنية. وفي إحدى المرات، اقتحمت مجموعة من البلطجية، إفطار رمضاني يضم مجموعة من قيادات وأعضاء المعارضة، نظمته الحركة المدنية الديمقراطية، واعتدوا على الحاضرين وهم يهتفون «خونة وجواسيس».
مصادرة المجال العام
صاحب قمع السلطات المصرية المنظم للمعارضة السياسية، استراتيجية محكمة لمصادرة المجال العام بالكامل، والسيطرة على تدفق المعلومات والنقاشات العامة. ومن ثم، أصبحت منظمات المجتمع المدني والإعلام المستقل أهدافًا رئيسية لقمع ما بعد 2013.
في 2015 ضمت سلطات التحقيق منظمات حقوقية مصرية لقضية «التمويل الأجنبي» (رقم 173 لعام 2011) التي بدأها المجلس الأعلى للقوات المسلحة عام 2011 مستهدفًا منظمات دولية. وتم استدعاء بعض الحقوقيين المصريين للتحقيق على خلفية اتهامات لا أساس لها. وخلال التحقيق، استجوبت النيابة بعضهم حول تقارير منظماتهم للأمم المتحدة. وبحلول عام 2016 صدر قرار بتجميد أصول وممتلكات عدد من المنظمات الحقوقية المصرية المستقلة والحقوقيين العاملين فيها وحظر سفرهم، على خلفية اتهامات باطلة تصل عقوباتها للسجن مدى الحياة. ورغم أن السلطات المصرية في مطلع 2022 أغلقت رسميًا التحقيق مع بعض هؤلاء الحقوقيين، إلا أن أغلبهم، ما زال رهن حظر السفر وتجميد الممتلكات.
وفي 2017 تم إخفاء الحقوقي إبراهيم متولي مؤسس رابطة أسر المختفين قسرًا، من مطار القاهرة قبيل سفره لمقابلة فريق العمل الأممي المعني بالمختفين قسرًا. واجه متولي اتهامات بالإرهاب وأُعيد تدويره في قضايا جديدة أكثر من مرة، منها القضية رقم 786 لعام 2020. وحتى الآن، لا يزال متولي رهن الحبس الاحتياطي بعد أكثر من خمس سنوات من احتجازه.
وفي سياق مشابه، صدر الحكم بحبس 29 من القيادات والعاملين في التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، لمدد تتراوح بين 5 و15 عامًا بناء على اتهامات تتعلق بالإرهاب. وفي 2019 ألقي القبض على المحامي الحقوقي محمد الباقر أثناء مثوله للدفاع عن موكله الناشط علاء عبد الفتاح، وتم تدوير كلاهما في عدة قضايا أكثر من مرة، وصدر بحقهما أحكام بالحبس (أربع سنوات للباقر وخمسة لعبد الفتاح) من محكمة طوارئ، وإدراجهما على قوائم الإرهاب. وكذلك يخضع خمسة من العاملين في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بينهم مديرها، لإجراءات عقابية، تشمل حظر السفر وتجميد الأصول. وفي 2020 حُكم غيابيًا على بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالسجن 15 سنة بسبب تصريحات أدلى بها في فعالية للأمم المتحدة.
تستخدم السلطات المصرية قوانين مكافحة الإرهاب وقانون الإجراءات الجنائية لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان، ضمن استراتيجية أكبر لإسكات المعارضة والسيطرة على الخطاب العام. هذا بالإضافة إلى نية القمع المبيتة إزاء المجتمع المدني، والتي يكشف عنها قانون تنظيم الجمعيات القمعي (رقم 149 لعام 2019)، والذي يمنح صلاحيات واسعة للسلطات على عمل المنظمات واستقلالها. إذ يرهن القانون أنشطة المنظمات والجمعيات بالتوافق مع خطة الحكومة للتنمية، ويمنح للسلطات حق رفض تسجيل الجمعيات إذا انطوت أنشطتها على ما يمكن اعتباره مخالفة لـ «الآداب العامة». كما يسمح القانون لمسئولين حكوميين بمراقبة الأنشطة، ودخول المقرات ومراجعة السجلات وقتما أرادوا. هذا التعدي على حرية تكوين الجمعيات يقوض بدوره نزاهة العمليات الانتخابية، نظرًا لدور المجتمع المدني في حماية المجال العام والسياسي وخلق النقاشات حول الانتخابات ومراقبتها.
وبالمثل عانى الإعلام المستقل على مدى العقد الماضي من هجمات قمعية متكررة. ومنذ 2014، هيمنت أجهزة الأمن على معظم المنصات الإعلامية في مصر، فأضحت تملك القدرة الفعلية على تشكيل الخطاب العام.
في عهد مبارك، كان الإعلام المملوك للدولة يلتزم بالخطاب الحكومي، أما رجال الأعمال المرتبطين بالحكومة، فيملكون صحفًا وقنوات فضائية خاصة، تردد بدورها ما تقوله الحكومة، لكن ضمن هامش أوسع من الاستقلالية، يسمح لها بتحدي الهيمنة على الإعلام الحكومي. وقد اتسع هامش الاستقلالية هذا على نحو ملحوظ أعقاب خلع مبارك في 2011، لكن مع 2013 تراجع بشكل أسوأ مما كان عليه.
في مناسبات متفرقة، كرر الرئيس السيسي علنًا رغبته في التزام جميع المنصات الإعلامية بدعم خطوات الحكومة وتبني الرواية الرسمية. ففي أغسطس/آب 2014 قال السيسي أن الرئيس جمال عبد الناصر كان «محظوظًا» بإعلامه الذي اتبع تعليماته، في إشارة إلى أحد أشد العهود قمعًا للإعلام في التاريخ المصري. وبعد الانقلاب العسكري 2013، سرعان ما سيطرت الأجهزة الأمنية على المنصات الإعلامية، واكتسبت قوى استثنائية القدرة على السيطرة على الخطاب الإعلامي وتشكيله. إذ منعت بشكل غير رسمي تغطية أحداث وأخبار المعارضة السياسية، وأي نقد أو هجوم على أداء الوزراء والوزارات، والرئيس. كما حظرت تغطية قضايا معينة، مثل الأزمة الاقتصادية، حتى أصبح هذا نمطًا إعلاميًا متبعًا.
في أبريل 2021، أصدرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير تقريرًا حول فرض السلطات المصرية مرارًا حظرًا رسميًا على تغطيات إخبارية لقضايا تنطوي على اتهامات لمسئولين حكوميين بجرائم مثل الاغتصاب والتعذيب والقتل والفساد، انتهت كالعادة بإفلاتهم من العقاب. كما تستمر السلطات المصرية في حجب مئات المواقع الإخبارية والحقوقية. ولم يُستثن الإعلام الدولي، إذ سبق وهدد مسئولون مصريون منافذ إعلامية دولية، وتم ترحيل صحفيين أجانب من مصر قسرًا، خلال الانتخابات الرئاسية 2018. وعلى مدى عقد تقريبًا، استهدفت السلطات الصحفيين وفرضت الرقابة على الصحف، الأمر الذي انعكس على استمرار تدهور موقع مصر على مؤشر حرية الصحافة. فبينما كانت مصر في المرتبة 158 بين 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة عام 2013 تراجع تصنيفها على المؤشر نفسه في 2022 لتصبح رقم 168. كما صُنفت مصر ضمن أسوأ الدول في معدلات حبس الصحفيين.
ولم تنفلت مواقع التواصل الاجتماعي من هذه القبضة. إذ فرض قانون مكافحة الجريمة الإلكترونية (رقم 75 لعام 2018) وقانون تنظيم الإعلام (رقم 180 لعام 2018) عقوبات بالسجن وغرامات ثقيلة على مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، تحت مزاعم نشر «أخبار كاذبة» أو انتهاك «القيم الأسرية» من بين عدة مخالفات أخرى مبهمة التعريف. كما سعت السلطات أيضًا للسيطرة على المحتوى الدرامي والسينمائي والخطاب التلفزيوني. ففي خطاب عام، تحدث السيسي عن فيلم معين أُنتج في التسعينيات، مشيرًا إلى أنه صور الدولة كـ «خصم» وحفز أحداث 2011. وانطلاقًا من هذه الرؤية، فرضت الأجهزة الأمنية احتكارًا شبه كامل على صناعة الأفلام والترفيه من خلال شركات الإنتاج الكبرى.
وخلال سنوات من مساعي التأميم والاحتكار وإحكام السيطرة على الخطاب العام، نجحت السلطات المصرية في مصادرة المجال العام بالكامل. وتعرضت منظمات حقوق الإنسان ومنابر الإعلام المستقل للهجوم لدرجة لا تسمح بعقد انتخابات حرة أو نزيهة.
وهم الانفراجة السياسية والانتخابات الرئاسية 2024
في أبريل/نيسان 2022 دعا السيسي إلى الحوار الوطني مع المعارضة، وألمح إلى الاستعداد لتخفيف الحظر غير الرسمي على النشاط السياسي. هذه الدعوة جاءت بالأساس خوفًا من الأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر. فالنموذج الاقتصادي غير المستدام الذي تبناه السيسي، اعتمد بقوة على الاقتراض الأجنبي وتوسع الجيش في النشاط الاقتصادي، هذا النموذج تعرض لضغوط قوية بسبب التداعيات المالية لأزمة كوفيد-19، والغزو الروسي لأوكرانيا. والحوار الوطني في هذا التوقيت، سيجعل المعارضة شكليًا جزء من تحركات الحكومة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية القادمة. الأمر الذي يضمن أن السياسات الاقتصادية التي لن تحظى بشعبية فيما يستجد، ستصور باعتبارها أنها مبنية على إجماع سياسي، وليست قرارات أحادية كالمتبعة في العقد الماضي. وعلى الجانب الآخر، هذه الانفراجة السياسية المزعومة قد تهدئ الحلفاء الغربيين والمؤسسات المالية الدولية، وهي أطراف يتعاظم دورها في الإنقاذ الاقتصادي، من خلال تقديم المزيد من القروض والمساعدات.
بعد الدعوة للحوار الوطني، أعلنت الحركة المدنية الديمقراطية عدة مطالب ضرورية لتوفير بيئة داعمة لانفراجة سياسية حقيقية، على رأسها إخلاء سبيل جميع السجناء السياسيين. وعلى مدار العام الماضي، أفرجت السلطات عن أكثر من 900 سجين بموجب قرارات بالعفو الرئاسي أو إفراجات من الحبس الاحتياطي؛ مثل محمد محيي الدين الذي تم إخلاء سبيله في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بعد 3 سنوات من الحبس الاحتياطي. وزياد العليمي وحسام مؤنس الذين أخلي سبيلهما من قضية تحالف الأمل بعد ثلاث سنوات من الحبس ظلمًا. ويحيى حسين عبد الهادي الذي خرج بعفو رئاسي في يونيو/حزيران 2022، بعد حبس احتياطي دام 3 سنوات، وأسبوع من الحكم عليه بالسجن أربع سنوات. (إلا أنه اتُهم في أبريل/نيسان 2023 في قضية جديدة بسبب تعليقات على مواقع التواصل تنتقد مناخ القمع وآثره على الانتخابات المرتقبة).
هذه القرارات بإخلاء سبيل بعض الشخصيات المعروفة جاءت بالتوازي مع مناورات ومفاوضات تستهدف الترويج، بشكل مغلوط، لانفراجة سياسية وشيكة. منها على سبيل المثال لا الحصر، «توجيهات» الرئيس السيسي للحكومة وأجهزة الدولة في مارس/آذار 2023 بفحص مقترح من أمانة الحوار الوطني حول تمديد أجل الإشراف القضائي على الانتخابات، والذي كان من المقرر أن ينتهي قبل الانتخابات المقبلة.
إلا أن الصورة الأكبر تشير لواقع مختلف، خصوصًا فيما يتعلق بنزاهة الانتخابات الرئاسية. فبعد عشر سنوات من السيطرة والقمع، تمددت فيها هيمنة الرئيس على مؤسسات الدولة وعلى القضاء، أضحت الرقابة القضائية لا يعول عليها. ورغم إخلاء سبيل شخصيات معروفة ما زال أخرون أمثال أبو الفتوح والقصاص وعشرات الآلاف رهن الاحتجاز، ينضم إليهم باستمرار محتجزين جدد. فبينما تم إخلاء سبيل أكثر من 900 شخص منذ أبريل/نيسان 2022، إلا أن 3000 آخرين على الأقل تم القبض عليهم في الفترة نفسها. وتستمر الأجهزة الأمنية في ملاحقة معارضين ومواطنين غير مسيسين، واتهامهم بالإرهاب، بسبب تعليقات على مواقع التواصل، بما في ذلك تعليقات ساخرة من ارتفاع الأسعار. ففي أبريل الجاري اعتقلت السلطات طبيبًا مصريًا واتهمته بالإرهاب في القضية رقم 508 لعام 2023 بسبب منشور على موقع فيس بوك انتقد فيه الرئيس. حتى زياد العليمي الذي تم العفو عنه، ما زال على قوائم الإرهاب ضمن معارضين آخرين، ومن ثم فهو ممنوع من السفر ولا يمكنه الترشح لمنصب سياسي. وفي عام 2022، تم تدوير 620 محتجزًا في قضايا جديدة، فضلًا عن110 شخصًا آخرين تم تدويرهم على قضايا جديدة في الشهور الأولى من العام الجاري. وفي مارس/آذار 2023 اشتكت جميلة إسماعيل رئيسة حزب الدستور من أن حزبها ما زال غير مسموح له بتنظيم فعاليات عامة خارج مقره. ورغم الإعلان عن رفع حالة الطوارئ واحتفاء الحكومة بذلك باعتباره «تطور إيجابي» في السجل المصري الحقوقي؛ أضحى هذا الإنجاز الأجوف بلا قيمة، بعدماتم نسخ مواد قانون الطوارئ ونقلها لقوانين أخرى، مثل قانون مكافحة الإرهاب. هذا بالإضافة لتصاعد أحكام الإعدام الصادرة على مدار 2022 مقارنة بالعامين السابقين، رغم تعهدات الحكومة المصرية المتكررة بالنظر في تعليق هذه العقوبة.
أن المناخ السلطوي الحالي في مصر لا يسمح بانتخابات حرة أو نزيهة. هيمنة رئيس الجمهورية على جميع مؤسسات الدولة والقضاء، وتقنين تدخل الجيش في السياسة والعملية الانتخابية، وتآكل استقلال القضاء بموجب تعديلات دستورية وتشريعية خطيرة، واستمرار اعتماد الأمن على ترسانة من القوانين القمعية لاستهداف المعارضة السلمية، والحملات المتكررة على قيادات المعارضة وأعضائها، والمعوقات التي تفرضها السلطات على تشكيل الأحزاب وعلى تكوين الجمعيات؛ جميعها وقائع لا تنسجم مع الاشتراطات الأساسية للانتخابات الحرة، ولا تسمح ببناء أية قوة سياسية أو طرح بدائل حقيقية. هذا بالإضافة إلى العدوان المستمر على المجتمع المدني المستقل، عبر استهداف عناصره باتهامات إرهابية ملفقة، وإجراءات عقابية كحظر السفر وتجميد الأصول، وقانون الجمعيات القمعي؛ هذه كلها إجراءات تؤدي لتآكل استقلالية المجتمع المدني، وتمثل انتهاكًا خطيرًا لحرية التجمع وتكوين الجمعيات، على نحو يقوض أية إمكانية لعقد انتخابات نزيهة.
كما تسبب الهجوم المتكرر على حرية التعبير سواء عبر الهيمنة على الإعلام التقليدي، أو القبض على الصحفيين ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، في تآكل المنصات المستقلة اللازمة لحرية التعبير والرأي، ومن ثم، الافتقار لشرط ضروري يرتبط باتخاذ القرارات بناء على معلومات سليمة أثناء الانتخابات الحرة والنزيهة.
إن الإرادة السياسية المسئولة عن الإطار العام لهذا القمع، والتي تتعمد مصادرة قدرة المواطنين على ممارسة حقوقهم السياسية وتتجاهل محاسبة المسئولين الحكوميين، هي أكبر عائق لانتخابات حرة ونزيهة. فبينما يعد الإشراف القضائي المستقل على الانتخابات، ومراقبة المجتمع المدني المستقل لمجرياتها، خطوات مرحب بها في الظروف العادية؛ إلا أن الإصلاح الجذري هو وحده القادر على إضفاء الشرعية على الانتخابات الرئاسية المصرية 2024.
خلفية عن انتخابات 2018 الرئاسية
في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 أعلن أحمد شفيق القائد الأسبق للقوات الجوية والوزير من عهد مبارك الذي خسر انتخابات 2012 الرئاسية بهامش ضئيل، عبر فيديو بثه من الإمارات نيته الترشح أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي في انتخابات 2018. وبعد إعلان شفيق، رحلت السلطات الإماراتية شفيق فورًا إلى مصر، حيث تم التحفظ عليه قيد الإقامة الجبرية والضغط عليه لسحب ترشحه، بينما قبضت السلطات على ثلاثة من أعضاء حزبه. فاضطر شفيق في النهاية إلى الإعلان عن عدم نيته الترشح.
بعد انسحاب شفيق، أعلن سامي عنان، رئيس أركان القوات المسلحة في عهد مبارك، نيته الترشح للانتخابات، واختار المستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات والأستاذ الجامعي حازم حسني مستشارين له. وبعد إعلان عنان بيوم، قال السيسي في خطاب علني هناك من أعرف بفسادهم، ولن أسمح لهم بالوصول لهذا المقعد (مشيرًا إلى مقعده). فتم القبض على عنان في ظرف أيام من الخطاب والاعتداء بقسوة على هشام جنينة في الشارع واعتقاله.
أما المرشح الثالث فهو العميد أحمد قنصوة، الذي تم القبض عليه والحكم عليه أمام محكمة عسكرية بعد إفصاحه عن نية ترشحه في الانتخابات الرئاسية.
وإلى جانب الاعتداء المباشر والإكراه بحق المرشحين، فإن مناخ القمع والمعوقات التي وضعتها السلطات المصرية دفعت مرشحين آخرين للانسحاب. فبعدما أعلن المحامي والسياسي اليساري خالد علي تراجعه عن الترشح للانتخابات الرئاسية، أشار إلى اعتقالات متفرقة لأفراد من حملته و«انتهاكات» ارتكبتها لجنة الانتخابات. وبالمثل، انسحب النائب السابق محمد أنور السادات من السباق الانتخابي، بعدما كان أعلن نيته الترشح، مشيرًا لمخاوف على سلامة أفراد حملته الانتخابية، وتحفظه على السياق القمعي العام.
أدى التدخل الصريح من الرئيس وأجهزة الأمن في الانتخابات الرئاسية 2018 إلى تنامي دعاوى المقاطعة. فردت السلطات المصرية بفتح تحقيق بحق 13 شخصًا، منهم قيادي المعارضة البارز حمدين صباحي رئيس حزب التيار الشعبي، والصحفي خالد داوود الذي كان رئيسًا لحزب الدستور، على خلفية اتهامات بالخيانة ومحاولة قلب نظام الحكم. وهي اتهامات تصل عقوباتها حد الإعدام.
في النهاية خرجت انتخابات 2018 وكأنها مشهد في مسرحية، يقف فيها السيسي كمرشح منفرد في مواجهة مرشح أخر أعلن قبل ترشحه دعمه لمنافسه وتأييده حصول السيسي على فترة رئاسية ثانية. فتم انتخاب السيسي بأغلبية 97% من الأصوات –وهي نسبة متوقعة في هذا السياق– لأربع سنوات أخرى كان مقررًا لها الانتهاء في 2022، وتم تمديدها لـ 2024.
للتنزيل بنسخة PDF هنا
Share this Post